حضرموت ليست مجرد مساحة واسعة على خارطة الجنوب العربي، ولا مجرد خزان نفطي أو إقليمي هامشي في حسابات السياسة، بل هي اليوم مركز الثقل الحقيقي في معادلة الاستقرار والصراع معًا. ففي اللحظة التي تتكثف فيها محاولات إعادة خلط الأوراق، تُدفع حضرموت إلى واجهة الاستهداف بوصفها الحلقة التي إن انكسرت، انفتح الجنوب بأكمله على الفوضى.
ما يحدث في حضرموت لا يمكن قراءته كحراك عابر أو تباين سياسي محلي، بل كجزء من صراع استراتيجي تسعى فيه قوى معادية إلى إعادة إنتاج نفوذها عبر أدوات جديدة وأقنعة مختلفة، لكنها تتفق جميعها على هدف واحد تفريغ حضرموت من قرارها، وتسليمها لمشاريع الحوثي أو الإخوان أو الإرهاب.
-مشاريع متعددة وغاية واحدة
رغم اختلاف العناوين والشعارات، فإن محاولات اختراق حضرموت تتشابه في جوهرها. الحوثي يسعى للوصول إلى بحر العرب وموارد الطاقة، والإخوان يبحثون عن إعادة تموضع بعد سلسلة إخفاقات، بينما تتسلل التنظيمات الإرهابية عبر الفراغات الأمنية. لكن القاسم المشترك بينها جميعًا هو السعي لفرض واقع بالقوة، وإخضاع حضرموت لمنطق المليشيا لا منطق الدولة.
ولهذا، فإن الرفض الحضرمي والجنوبي لأي محاولة تسليم أو تمكين لهذه القوى ليس موقفًا سياسيًا فحسب، بل خيار وجودي. فالتجربة أثبتت أن هذه المشاريع لا تجلب معها سوى الانقسام، وتفكيك النسيج الاجتماعي، وتحويل الثروات إلى وقود للصراع بدلًا من أن تكون رافعة للتنمية.
-الثروة حين تتحول إلى سلاح ضد أصحابها
تختزن حضرموت واحدة من أهم الثروات النفطية والغازية في المنطقة، وهي ثروة كان يفترض أن تشكل أساسًا لازدهار اقتصادي وتنموي مستدام. غير أن الواقع كشف عن مفارقة قاسية: محافظة غنية بالموارد، لكنها تعاني من نقص الخدمات وتدهور البنية التحتية.
هذا التناقض لم يكن وليد الصدفة، بل نتيجة مباشرة لسنوات من العبث المنظم بالثروات، حيث جرى توظيف النفط والغاز كأدوات نفوذ وتمويل لمراكز قوى بعيدة عن هموم المواطن. ومع كل جولة عبث جديدة، كانت حضرموت تدفع الثمن من أمنها واستقرارها.
ومن هنا، تصبح التوعية بمخاطر استمرار هذا العبث ضرورة وطنية. فالثروة التي لا تُدار بإرادة محلية شفافة، تتحول من نعمة إلى نقمة، ومن فرصة بناء إلى سبب صراع. وحضرموت اليوم أمام مفترق طرق: إما أن تُدار ثرواتها ضمن مشروع دولة جنوبية مسؤولة، أو تُترك رهينة لأجندات تستنزفها حتى آخر برميل.
-رسالة واضحة للحلفاء الاستقرار ليس مجزأً
في سياق الرسائل السياسية الموجهة للحلفاء، تبرز حقيقة لا تحتمل التأويل: لا يمكن الحديث عن جنوب مستقر دون حضرموت مستقرة. فهذه المحافظة ليست طرفًا هامشيًا في المعادلة، بل قلبها النابض اقتصاديًا وجغرافيًا.
إن أي مقاربة تتجاوز حضرموت أو تتعامل معها كملف ثانوي، هي مقاربة محكوم عليها بالفشل. فغياب الاستقرار في حضرموت يعني فتح ثغرة واسعة أمام التهديدات العابرة للحدود، من الإرهاب إلى تهريب السلاح والطاقة، وهو ما ينعكس على أمن المنطقة بأسرها.
وعليه، فإن دعم استقرار حضرموت، وتمكين أبنائها من إدارة شؤونهم الأمنية والاقتصادية، لا يخدم الجنوب العربي وحده، بل يشكل ركيزة للأمن الإقليمي والدولي. هذه ليست مجاملة سياسية، بل قراءة واقعية لمعادلات القوة والمصالح.
-القوات المسلحة الجنوبية من الردع إلى الطمأنة
لم يعد وجود القوات المسلحة الجنوبية في حضرموت مجرد انتشار أمني، بل تحول إلى عامل توازن واستقرار. فهذه القوات، التي راكمت خبرة ميدانية واسعة في مواجهة الإرهاب، استطاعت أن تفرض معادلة جديدة قوامها الأمن المنضبط والشراكة مع المجتمع.
ما يميز هذه التجربة هو أنها لم تُبنَ على منطق القوة المجردة، بل على فهم عميق لطبيعة حضرموت الاجتماعية، واحترام خصوصيتها، وهو ما عزز شعور المواطنين بالأمان، وأعاد الثقة بفكرة المؤسسة العسكرية الوطنية.
إن المواطن الذي يشعر بالأمان في مدينته وقريته، هو مواطن محصن ضد مشاريع الفوضى. وهذا الشعور لا يُصنع بالخطابات، بل بحضور فعلي يحمي، ويمنع، ويطمئن، وهو ما بات ملموسًا في حضرموت.
-الوعي الشعبي… المعركة الصامتة
في مقابل الضجيج السياسي والإعلامي، تخوض حضرموت معركة أخرى لا تقل أهمية، معركة الوعي. فالمجتمع الحضرمي، بتركيبته المتماسكة، أظهر قدرة لافتة على فرز الخطاب، وتمييز المشاريع الوطنية من المشاريع المشبوهة.
هذا الوعي المتنامي هو ما أفشل كثيرًا من محاولات الاختراق، وحال دون جرّ المحافظة إلى صراعات مفتوحة. وهو أيضًا ما يفرض مسؤولية كبيرة على النخب الإعلامية والثقافية، لتقديم خطاب يرفع منسوب الإدراك، بدلًا من تغذية الانقسام.
-حضرموت والجنوب وحدة المصير لا تقبل التشكيك
كل محاولات الفصل بين حضرموت والجنوب تصطدم بحقيقة تاريخية وجغرافية وسياسية واحدة: المصير المشترك. فحضرموت لم تكن يومًا خارج السياق الجنوبي، بل كانت دومًا في صلبه، بما تمتلكه من عمق حضاري وثقل اقتصادي.
إن تعزيز حضور حضرموت داخل المشروع الوطني الجنوبي لا ينتقص من خصوصيتها، بل يحميها، ويمنحها دورًا فاعلًا في صياغة مستقبل الدولة القادمة، دولة تقوم على الشراكة والعدالة لا على الإقصاء والهيمنة.
-حضرموت تختار موقعها
إن حضرموت اليوم لا تُستهدف لأنها ضعيفة، بل لأنها قوية ومؤثرة. ومعركة اليوم ليست عسكرية فقط، بل سياسية واقتصادية ووعي جمعي. معركة على القرار، وعلى الثروة، وعلى الاتجاه.
ورهان الجنوب العربي على حضرموت ليس رهانًا عاطفيًا، بل رهان استراتيجي. فحين تكون حضرموت آمنة، يكون الجنوب أقرب إلى الاستقرار. وحين تُدار ثرواتها بإرادة وطنية، يفتح ذلك أفقًا جديدًا لدولة قادرة على حماية نفسها وخدمة شعبها.
إنها لحظة اختبار، وحضرموت كما كانت دائمًا تثبت أنها على قدر المسؤولية، وأنها تعرف جيدًا من يحاول حمايتها، ومن يسعى لاستخدامها لمشاريعه.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news