في الذكرى الثانية عشرة لمجزرة سناح، مثلما نستذكر ما تعرضنا له من جرائم ومآسي على يد قوات الاحتلال لا بد لنا أن نستذكر بطولاتنا أيضًا، صحيح كنا معدمين فاقدي العدة والمؤن، لكن كان لدينا وقود وسلاح العزيمة وعدالة القضية وشرف التضحية وروح الانتقام.
في ليلة تشبه هذه الليلة من العام 2013، تحركنا نحو الجريحة سناح التي تخظبت جدران منازلها بدماء أطفالها وسكن بيوتها نحيب الأمهات الثكالى وأكباد الآباء المصهورة، نغلي كالبراكين، تتوهج في صدورنا نار الانتقام، عازمين على مهاجمة مبنى المجمع الحكومي (المحافظة)، ثأرًا لدماء وأرواح الأبرياء من الأطفال والمسنين والشباب، التي سفكتها قوات الاحتلال اليمني بقيادة مجرم الحرب المدعو "ضبعان". كان التحرك بقيادة القائد خالد مسعد، والقائد عزيز الهدف، والقائد الشهيد ناصر مسيعد، وآخرين من رفاق الموقف والعهد.
بدأ التجمع منذ ساعات العصر الأولى في منطقة “صَيَوَات” بحبيل السوق – حجر. توافد الأبطال بعيون تتقد شررًا من الغضب، قادمين من كل اتجاه؛ من حجر وجحاف والضالع، يحملهم العزم ويقودهم الألم. كان معنا مدفع B10، حملناه على أكتافنا صعودًا إلى قمة الجبل مع قذائفه، رغم عدم وجود طريق، ورغم وعورة المكان، لكن إرادة الانتقام غلبت كل معوقات الجغرافيا. وعندما بلغنا القمة، اكتشفنا أن المسافة بيننا وبين مبنى المحافظة لا تسمح بالإصابة الدقيقة، فقررنا إنزال المدفع فورًا، وكان ذلك قبيل وقت المغرب.
هبطنا نحو الوادي بعد معاناة شاقة، وقد أثقل التعب أقدامنا حتى كادت تعجز عن حملنا. أخذنا قسطًا قصيرًا من الراحة، ثم ثبتنا المدفع على سيارة مدنية تابعة للقائد خالد مسعد كانت معدة لذلك. وبعد نقاش طويل وأخذ ورد، أجمع الجميع على المغامرة والتقدم إلى أقرب نقطة ممكنة بكامل الأسلحة. وتمركز المدفع أخيرًا قرب مكتب مؤسسة المياه (المستشفى الميداني حاليًا)، بينما توزع المقاتلون إلى ثلاث مجموعات: ميمنة قطعت خط إمداد العدو من اتجاه الضالع، وميسرة قطعت خط الإمداد القادم من قعطبة، فيما تقدم القلب مباشرة نحو مبنى المجمع شرق مدينة سناح.
كنت حينها أعاني من كسور في ساقي اليمنى، ولا تزال الصفائح الحديدية مثبتة فيها، أتحرك فقط بالعكازين. لكن هول الفاجعة كان أكبر من الألم، فرفضنا الاستسلام للعجز، ورفضت نفسي أن تقف موقف المتفرج. كان الجبن في نظري أن لا أشارك، مهما كانت المخاطرة. وبسبب إصابتي أُسندت إلي مهمة قيادة سيارة التموين والدعم التابعة للأخ عبيد قائد سعيد. كنت أتنقل بها ذهابًا وإيابًا طوال المعركة، مطفئ الأنوار في ظلام حالك حتى لا يتم كشف تحركاتنا، فالعدو كان يقصف أي ضوء يتحرك. ومع ذلك كانت أنوار المكابح القليلة التي لا يمكن إخفاؤها دليلًا لهم فيستهدفون المكان بسلاح الدوشكا بغزارة، حتى ظننت غير مرة أن النهاية قد حانت… لكن الله سلم. وبرغم ذلك، نجحت كل عمليات الدعم والتعزيز بفضل معرفتي الدقيقة بجغرافيا الطريق وتوفيق وحفظ الله.
انطلقت شرارة الهجوم عند الثانية فجرًا، واستمرت المواجهات حتى السابعة صباحًا. استهدف الأبطال ثكنة الاحتلال داخل المجمع الحكومي، تلك الوحدة العسكرية التي ارتكبت المجزرة بقذائف الدبابات، استهدفها الشباب بوابل من المدفعية والآر بي جي والهاون والدوشكا والأسلحة الرشاشة المتنوعة. ومع اشتداد الضرب وتكثيف النيران، وصل الأبطال إلى أسوار وبوابات المجمع بعد أن دكوا تحصينات الحراسة. تحولت المواجهة إلى قتال على مسافة الصفر، حتى استُخدمت القنابل اليدوية، تمكن الأبطال فيها من التنكيل بالعدو حتى بدأت جراح قلوبنا تجبُر. ثم جاءت الأوامر بالتراجع مع بزوغ أول خيوط الصباح بعد أن عززت قوات الاحتلال عناصرها من اتجاه قعطبة ومن اتجاه معسكرات الضالع بقوة وبأسلحة مدرعة، فعاد الجميع بسلام بفضل الله بعد أن نجحنا في الانتقام وإشفاء غليلنا وغليل شعب الجنوب قاطبة.
ومن مفارقات تلك الليلة، كان بحوزتنا مدفع هاون 80 ملم ومعه ما يقارب أربع قذائف فقط، لكننا لم نملك الحشوات الخاصة به. عندها اقترح أحد ذوي الخبرة العسكرية استخدام حشوات لمدفع هاون أصغر، ربما 60 ملم - لم أكن أمتلك معرفة كافية بأنواع المقذوفات وقتها- رغم معارضة شديدة من أهل الخبرة وعلى رأسهم القائد الراحل الشهيد ناصر مسيعد الذي كان ضمن فريق المدفعية. ومع ذلك تم تثبيت المدفع وتجهيز المقذوف الأول بالحشوات الصغيرة. وما إن أطلقت حتى ارتفعت نحو عشرة أمتار فقط ثم سقطت قريبًا جدًا من موقع المدفع! ارتمى الجميع أرضًا ينتظرون الانفجار المحتوم. وبما أن المدفع كان في قعر شعب، كان صوت تدحرج القذيفة قريبًا منا حتى أيقن الكل أنها النهاية… لكن، وبفضل الله، لم تنفجر.
كانت تلك أيامًا ثورية بكل معنى الكلمة… أيامًا امتزج فيها الألم بالفخر والدموع بثأر الانتقام، والخطر بالعزيمة، والمرارة بالشرف. أيام لا تُنسى بحلوها ومرها.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news