تتهاطل البيانات العربية هذه الأيام كما لو كانت موسماً ممطرًا للورق فقط؛ بيانات متتابعة تؤكد “حرصها العميق” على وحدة اليمن وسلامة أراضيه، وتذكّر الأطراف بفضائل الحوار، بينما تتصرّف على طريقة من يرى القصف اليومي على غزة ثم يطوي الخبر في الجيب الخلفي دون أن يلتفت كثيرًا.
جامعة الدول العربية، ومعها سلطنة عمان والكويت وقطر والبحرين ومصر، أصدرت بيانات متناسقة في اللحن واللغة، اختلفت التواقيع فقط.
الجميع ينصح اليمنيين بالهدوء، ويذكّرهم بأن وحدة اليمن مقدّسة، وأن أي محاولة لاستعادة الدولة الجنوبية ليست سوى “تهديد للسماء الزرقاء” التي لا يريد أحد أن يراها تتغيّر… إلا في غزة، فهناك السماء تتغير بالقصف لا بالبيانات.
عاش بيان الوحدة.. وتسقط الكهرباء عن الضمير
الدول الموقّعة على بيانات الوحدة اكتفت بنشاط كثيف في غرف الإعلام فقط.. لا مؤتمرات طارئة، لا تحركات جادة، لا ضجيج دبلوماسي.. البيان يخرج.. يتثاءب.. ثم ينام.
أما غزة، فهي تقصف بانتظام مملّ، ومع ذلك لا تزال البيانات تبحث عن قلم حبر يوقّعها، وتتعثر دائمًا في ازدحام الأجندات والاجتماعات وابتسامات البروتوكول.
الجنوب؟ يطالب بحقه، فتستيقظ الخطابات فجأة
الغريب أن بوصلة القلق العربي تتمتع بحساسية عالية جدًا تجاه استعادة الدولة الجنوبية؛ فما إن يطالب الجنوبيون بحقهم السياسي والتاريخي، حتى تصحو البيانات النائمة، وتتذكّر فجأة “وحدة اليمن”، و“سلامة أراضيه”، و“النسيج الوطني”، وعبارات تصلح لكل الأزمنة وتناسب جميع الخطب.
لكن حين يتعلق الأمر بحق الفلسطيني في الحياة… تختفي الحساسية، ويصبح الصمت فضيلة سياسية، ويكتفى بعبارة مقتضبة من نوع: “نراقب بقلق بالغ”.
البيانات تحب الاحتلال الشمالي.. ولا تحب الإزعاج
البيانات الأخيرة شُغوفة جدًا بما تسميه “الحفاظ على اليمن الموحد”، أما توصيف ما يجري في الجنوب باعتباره احتلالًا شماليًا لبلادٍ كانت دولة مستقلة لعقود طويلة، فذلك توصيف غير مرحّب به في القواميس الرسمية.
يبدو أن هذه البيانات تفضّل الوحدة حين تكون بالقوة، وترفض الانقسام حتى لو كان مطلب شعب، وتستشهد بالحوار كثيرًا، لكنها لا تشرح لماذا لم ينجح الحوار طوال سنوات.
استعادة الدولة الجنوبية.. حق لا تسقطه البيانات
الجنوبيون لا ينتظرون ختمًا أزرق من جهة ما ليطالبوا بحقهم، فالحق السياسي لا يُلغيه بيان، ولا يمحوه تصريح، ولا يوقفه “قلق بالغ”.
استعادة الدولة الجنوبية ليست نزوة عابرة، بل قضية جذرية، ولها تاريخ ودم وتضحيات، وليست قابلة لأن تُطوى مع الأوراق الرسمية التي تنام على الرفوف.
غزة تُقصف: البيانات تتحول إلى “صوت صامت”
الجنوب يطالب بحقوقه: البيانات تصحو فجأة وتستعيد لياقتها الخطابية.
لهذا يمكن القول إن بعض المواقف الرسمية في المنطقة لا تزال تعتبر أن حلّ القضايا الكبرى يبدأ بورقة وينتهي بورقة… بينما الأرض تكتب حقائقها بالحبر الحقيقي، لا بالحبر الجاف.
استعادة الدولة الجنوبية حقٌ مطلوب.. ولو امتلأت السماء كلها بالبيانات.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news