لم تسقط المنطقة العسكرية الأولى في حضرموت نتيجة هزيمة أمام جماعة الحوثي، ولا بفعل انهيار عسكري داخلي، بل بعد سنوات من الاستهداف السياسي المنهجي، والتجفيف المتعمّد للدعم، والتشويه الإعلامي، انتهت بعملية عسكرية خاطفة نفّذها المجلس الانتقالي الجنوبي تحت ذرائع سبق استخدامها في عدن وشبوة، على رأسها "مكافحة الإرهاب" و"مواجهة التهريب".
وعلى خلاف مناطق عسكرية أخرى انهارت تباعاً منذ تمرد الحوثيين في سبتمبر 2014، ظلّت المنطقة العسكرية الأولى آخر تشكيل نظامي حافظ على وجوده، وعلى رمزية الدولة في وادي وصحراء حضرموت، ونجا بقواته ومخازنه من السقوط، وخاض معارك معقّدة ضد تنظيم القاعدة، وضد شبكات تهريب مرتبطة بالحوثيين، في واحدة من أوسع وأخطر الجغرافيات اليمنية.
غير أن هذه المنطقة، التي صمدت أمام الحوثيين حين سقطت العواصم، وجدت نفسها لاحقاً في مواجهة مشروع موازي يتحرّك من خارج أدوات الدولة، عمل على تبني العداء للمنطقة، مستغلا المشكلات التي واجهتها المنطقة نتيجة وضع البلد والمعركة مع الحوثيين، وبعض الاختراقات التي تسلّلت إلى قواتها. فلم يكن الانتقالي يسعى لمعالجة وضع المنطقة، وانما اجتثاثها وتغيير المشهد في نطاقها، بهدف السيطرة على حضرموت، بوصفها عمقاً استراتيجياً وثروة اقتصادية.
يوثّق هذا التقرير، مسار تشكّل المنطقة العسكرية الأولى وتطوّر مهامها، ويرصد كيف تحوّلت من ركيزة للاستقرار ومواجهة الإرهاب والتهريب، إلى هدف مباشر لحرب سياسية وأمنية انتهت بإسقاطها، في لحظة مفصلية من الصراع على شرق اليمن.
في قلب الجغرافيا العسكرية
منذ ما بعد إعلان إعادة تحقيق الوحدة اليمنية في 22 مايو 1990، شكّلت محافظة حضرموت، ومعها شبوة والمهرة وأرخبيل سقطرى، العمق الشرقي لمسرح العمليات العسكري للجمهورية اليمنية، ضمن ما عُرف آنذاك بـ"المنطقة العسكرية الشرقية"، التي اتخذت من مدينة المكلا مقراً لقيادتها.
تولّى قيادة هذه المنطقة في مراحل مختلفة اللواء محمد إسماعيل القاضي، ثم اللواء محمد علي محسن الأحمر، وكلاهما من محافظة صنعاء (سنحان)، في سياق كان الجيش اليمني فيه شديد المركزية، وتُدار وحداته الكبرى بعقلية السيطرة على الأطراف من المركز.
وتُعد حضرموت والمهرة أكبر رقعة جغرافية متصلة في اليمن، إذ تبلغ مساحتهما مجتمعتين نحو 269,329 كيلومتراً مربعاً، أي ما يقارب 48% من مساحة البلاد، يضاف إليهما أرخبيل سقطرى بمساحة 3,796 كيلومترات مربعة. هذه الجغرافيا الهائلة لا تختزن فقط الثقل السكاني والامتداد الصحراوي، بل تحتضن معظم الثروات النفطية والغازية المكتشفة، وتمتد على جنوب صحراء الربع الخالي، وتجاور حدوداً برية طويلة مع السعودية تزيد عن 700 كيلومتر، وحدوداً أخرى مع سلطنة عمان بطول 294 كيلومتراً.
في هذه الرقعة نفسها، تقع ثلاثة منافذ برية دولية، وثلاثة مطارات دولية، إلى جانب نحو خمسة مطارات غير رئيسية، وشبكة طرق دولية تحوّلت خلال سنوات الحرب إلى شرايين رئيسية لحركة المسافرين والتجارة. كما تمتد حضرموت على شريط ساحلي طويل على بحر العرب يقارب الألف كيلومتر، تنتشر عليه قرابة 20 ميناءً رئيسياً وعشرات المرافئ والمراسي الصغيرة.
ولادة المنطقة العسكرية الأولى
مع اندلاع الاحتجاجات الشعبية عام 2011، أعلنت قيادة المنطقة العسكرية الشرقية انشقاقها عن نظام الرئيس السابق علي عبدالله صالح، وانحازت إلى الجيش الوطني الذي أعلن دعمه لمطالب التغيير.
وبعد توقيع اتفاق "المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية" في 23 نوفمبر 2011، دخلت المؤسسة العسكرية مرحلة إعادة ترتيب جزئي، شملت إبعاد عدد من القيادات المحسوبة على صالح. وفي هذا السياق، جرى إبعاد اللواء محمد علي محسن الأحمر من قيادة المنطقة الشرقية، وتعيين اللواء علي بن علي الجائفي بديلاً عنه مطلع أبريل 2012.
غير أن التحول الأوسع جاء مع قرارات الهيكلة الشاملة للجيش، التي فرضتها آليات المرحلة الانتقالية، حيث صدر القرار الجمهوري رقم (104) في 19 ديسمبر 2012، القاضي بتقسيم مسرح العمليات في الجمهورية اليمنية إلى سبع مناطق عسكرية بدلاً من خمس. وبموجب هذا القرار، قُسمت حضرموت والمهرة إلى منطقتين: الشرقية الشمالية، والشرقية الجنوبية التي تمتد إلى سقطرى.
وفي 10 أبريل 2013، بالتزامن مع أعمال مؤتمر الحوار الوطني الشامل برعاية أممية، صدر القرار الجمهوري رقم (16) الذي أعاد تشكيل وتسميات المناطق العسكرية السبع، وعيّن قياداتها. وبموجبه، أُنشئت المنطقة العسكرية الأولى، واتخذت من مدينة سيئون مقراً لقيادتها، بقيادة اللواء الركن محمد عبدالله الصوملي (من عمران)، وتعيين العميد الركن عبدالكريم قاسم الزومحي رئيساً لأركانها. في المقابل، أُنشئت المنطقة العسكرية الثانية ومقرها مدينة المكلا بقيادة اللواء محسن ناصر قاسم حسن الشاعري (من الضالع).
خريطة محافظة حضرموت
جغرافيا بلا هوامش
قُسّمت جغرافيا حضرموت أفقياً إلى نصفين: شمالي وجنوبي. ووفق هذا التقسيم، أعادت المنطقة العسكرية الأولى انتشارها لتشمل عشر مديريات في الوادي والصحراء وأجزاء من الهضبة الشمالية. وامتد مسرح عملياتها لمسافة تقارب 118 كيلومتراً، شملت مديريات شاسعة تبدأ من العبر والوديعة وزمخ ومنوخ شرقاً، مروراً بالقف وثمود شمالاً، وحتى رماه على تخوم محافظة المهرة.
تولّت المنطقة مهاما ثقيلة ومعقدة في آن واحد، تشمل حماية حدود برية مفتوحة، وتأمين طرق دولية، وحراسة منفذ الوديعة البري الحيوي مع السعودية، الذي تحوّل خلال الحرب إلى المنفذ الرئيسي لحركة اليمنيين. كما أُنيط بها تأمين مطار سيئون الدولي، وحماية منشآت استراتيجية، في مقدمتها قطاع النفط والغاز في المسيلة.
لكن هذه الجغرافيا، بسعتها وتعقيدها، جعلت المنطقة العسكرية في مواجهة تحديات أمنية غير تقليدية، حيث تداخل نشاط تنظيم القاعدة مع شبكات تهريب عابرة للمناطق والحدود، في ظل ضعف الإمكانات، واتساع المسافات، وارتخاء قبضة الدولة في المركز.
وفي يوليو 2014، أجرى الرئيس عبدربه منصور هادي حزمة تغييرات في قيادات المناطق العسكرية، شملت تعيين العميد الركن عبدالرحمن عبدالله الحليلي (من أبناء بني مطر – صنعاء) قائداً للمنطقة العسكرية الأولى، وقائداً للواء 37 مدرع، خلفاً للواء الصوملي، وذلك تزامناً مع تصاعد العمليات الإرهابية في المنطقة.
وبالنظر إلى مسرح عملياتها الواسع والتحديات التي تواجهها أمنيا والمهام الكبيرة المنوطة بها في محاربة الإرهاب والتهريب وتأمين الطرق والمصالح العامة والخاصة وحراسة الحدود ومواجهة الخلايا الحوثية، واجهت المنطقة صعوبات في تغطية تلك المسئوليات.
وبالحديث عن قوام قوات المنطقة وطبيعة تقسيم مسرح عملياتها قياسا بالجغرافيا الواسعة والمهام المتداخلية، يقول عسكريون إن حجم القوات والسلاح لا يتناسب مع المسرح المترامي والبيئة المعقدة.
كان مقر قيادة المنطقة في مدينة سيئون. وتضم قيادة المنطقة كتائب قتالية وسرايا متخصصة تخضع لقائد المنطقة. وتخضع لها قوات شرطة عسكرية. يتم تسيير الأعمال والمهام عبر مكتب القائد والشعب والإدارات المتخصصة. وغرفة عمليات ومركز قيادة وسيطرة رئيسي.
وكان يتمركز اللواء 135 مشاه ضمن قيادة المنطقة. يقوده منذ يناير 2015، العميد ركن علي يحيى الأدبعي (من أبناء حجة). خلفا للعميد ركن يحيى محمد علي ابوعوجاء الذي تم تعيينه مستشارا لوزير الدفاع. نطاق مسئوليته: سيئون، شبام، تريم، أطراف دوعن. وقد استولى عليه الانتقالي وعلى بعض مخازنه، فيما تم سحب بعض قواته.
وفي مدينة سيئون كان يتمركز اللواء 101 شرطة جوية، بقيادة الحضرمي العميد ركن سعيد عبيد بلحمر. ومقره الرئيسي داخل مطار سيئون الدولي.
هذا اللواء الوازن أضيفت له مهام قتالية وتشارك وحداته في مهام برية. منذ توقف القوات الجوية اليمنية بداية الحرب، ويشارك في تأمين المطار. يمتلك طائرتين هيلوكبتر قديمة متهالكة تفتقد لقطع الغيار. يتم استخدامها غالبا في أعمال إنسانية وعمليات نقل. تمثلان ما تبقى من سلاح الجو اليمني الذي تم تدميره بعد عاصفة الحزم. وكان لديه بعض المعدات والأسلحة الثقيلة، استولى عليها الانتقالي، ومثلها المروحيتين.
محور الخشعة- مديرية حورة:
وهو يضم:
-اللواء 37 مدرع: وهو احتياطي قائد المنطقة، ويكون قائدها هو نفسه قائد اللواء منذ عام 2014. كان متمركز قتاليا في الخشعة، وينتشر في مديريات حورة والقطن وأطراف حريضة. وقد استولى الانتقالي على مخازنه من مدفعية ودبابات وأسلحة وذخائر، بعد يوم من تسليم اللواء لقوات درع الوطن، التي انسحبت مع تقدم قوات الانتقالي دون مواجهة تاركة مخازن اللواء غنيمة لانتقالي.
-اللواء 23 مدرع: كان يتمركز في مركز مديرية العبر، يقوده العميد ركن عبدالله محمد علي معزب. يمتد نطاق مسئوليته في مديريات العبر وحجر الصيعر وأطراف رخيه، وفي الوديعة ومناطق مديرية زمخ ومنوخ. وقد تم تسليم مقره ومواقعه لقوات درع الوطن السلفية المدعومة سعوديا، وسحب قواته بموجب أوامر عليا إلى صحراء مأرب.
محور ثمود:
كان مقر قيادته بمدينة ثمود. بقيادة اللواء ركن عبدربه طريق (من أبناء مأرب). تمتد مسئوليته في مديريات ثمود ورماه والقف. أكبر مديريات حضرموت مساحة. كان يضم:
-اللواء 315 مدرع. يقوده العميد علي الخضر الدنبوع (من أبين) منذ يوليو 2020، خلفا للعميد ركن أحمد علي هادي (من أبين ومقرب من الرئيس هادي، وأعلن عن وفاته المفاجئة مطلع شهر أبريل "إثر معاناة طويلة مع المرض".
كان مقر اللواء داخل مطار ثمود الرملي وهو نفسه مطار ثمود الدولي، القاعدة العسكرية الجوية التي أنشاها البريطانيون في الثلاثينيات. وهو لواء وازن، يمتلك سلاح ثقيل ومدفعية ودبابات، لكنها قديمة، وبعضها بحاجة لصيانة وقطع غيار، وذخائرها قليلة. ويقع ضمن مسئولياته مطار أم غارب العسكري، وهو مهبط سعودي سابقا تم تسليمه لليمن خلال ترسيم الحدود، يقع إلى الشمال في عمق الصحراء.
وقد سيطرت قوات الانتقالي على المطارات العسكرية واستولت على معدات ودبابات ومدفعية اللواء، رغم إعلان قائده الدنبوع انضمامه للانتقالي. وسيطرت قوات اللواء الأول دعم أمني التابع للانتقالي على مقار ومواقع اللواء ونشرت أسلحة ثقيلة قدمتها لها الإمارات. وقد أصدر وزير الدفاع محسن الداعري قرارا بتعيين العميد أحمد مبارك ناصر مطهر (من أبناء شبوة) قائدًا للواء، بناء على ترشيح الانتقالي.
-اللواء 11 حرس حدود، بقيادة اللواء ركن فرج حسين العتيقي، وهو من أبناء شبوة، ومقره الرئيسي قرب مدينة رماه. وفيها يقع مطار رماه الرملي، ومهبط للطيران العمودي. وشمالا، على الحدود المقابلة للخرخير يقع مطار البديع، الذي كان قاعدة عسكرية سعودية استراتيجية، ومعسكر الخرجة لحرس الحدود، تم تسليمها لليمن خلال ترسيم الحدود. وقد استولى عليه الانتقالي رغم إعلان قائده انضمامه للمجلس. وتعرض اللواء للنهب من مسلحين بعضهم مشبوهين باسم قبائل.
جنود من المنطقة الأولى يقفون بجوار مروحية خلال استعراض عسكري
بعيدا عن الحوثي.. شريكا في العاصفة
عندما سقطت العاصمة صنعاء بيد جماعة الحوثي المدعومة إيرانياً في سبتمبر 2014، تمددت المليشيات بسرعة مذهلة غرباً وجنوباً، ثم شرعت في التقدم شرقاً، لتطال بعض قوات وقدرات المناطق العسكرية السادسة في الجوف، والثالثة في مأرب، والخامسة في الحديدة، والرابعة في عدن. وفي خضم هذا الانهيار، تُركت المنطقة العسكرية الثانية في المكلا فريسة لتنظيم القاعدة، الذي سيطر على المدينة لاحقاً.
لكن المنطقة الأولى كانت الاستثناء. فقد أعلنت قيادتها رفضها للتمرد الحوثي، واحتفظت بقواتها ومخازنها، وبقيت آخر منطقة عسكرية تحت سيطرة الحكومة الشرعية، محافظة على رمزية الدولة وحضور مؤسساتها، ومثّلت قاعدة خلفية لتجميع وتدريب الجيش اليمني وتأمين خطوط إمداده نحو جبهات القتال.
مع انطلاق عمليات "عاصفة الحزم" في 26 مارس 2015 بقيادة السعودية، دخلت المنطقة الأولى طوراً جديداً من عملها. فقد انخرطت بقواتها وألويتها ضمن عمليات قيادة القوات المشتركة التابعة للتحالف العربي، المسؤولة عن إدارة العمليات داخل البلاد، والإشراف على الجيش اليمني.
وأنشأ التحالف في مدينة سيئون مفرزة ومركزاً قيادياً لتنسيق العمليات ميدانياً، والإشراف على القوات، وفي مقدمتها قوات المنطقة. وبذلك تحوّلت سيئون إلى عقدة عسكرية ولوجستية مهمة في شرق اليمن، ومنها أُديرت عمليات إسناد، وتأمين، وتدريب، بعيداً عن خطوط المواجهة المباشرة.
الفرز الجغرافي..
أحدثت الحرب اليمنية انقسامات حادة داخل مؤسسة الجيش، لم تكن جميعها ناتجة عن طبيعة الصراع مع الحوثيين، بل بفعل تدخلات إقليمية، وتنافس سياسي متصاعد، وغياب مشروع وطني جامع لإدارة المؤسسة العسكرية. ومع مرور الوقت، أفضت هذه الانقسامات إلى فرز جغرافي واضح لما تبقى من القوات النظامية، وكذلك للقوات التي أُعيد تشكيلها لاحقاً.
في هذا السياق، جرى إخلاء المحافظات الجنوبية تدريجياً من القوات الشمالية، ضمن ترتيبات غير معلنة، لتبقى المنطقة العسكرية الأولى الاستثناء الوحيد، بوصفها التشكيل النظامي الذي حافظ على تركيبته الوطنية المتعددة، سواء في هيكله القيادي أو قوامه البشري، حيث ضمت ضباطاً وجنوداً من مختلف المحافظات اليمنية.
في المقابل، شهد ساحل حضرموت إعادة تشكيل قوات جنوبية بمسمّى "النخبة الحضرمية"، بدعم مباشر من دولة الإمارات العربية المتحدة، إلى جانب تجميع بعض الألوية والوحدات تحت قيادة المنطقة العسكرية الثانية "اسميّاً"، في ظل اتساع الفرز المناطقي شمالاً وجنوباً، وتراجع مفهوم الجيش الوطني الموحد لصالح تشكيلات مناطقية ذات ولاءات متعددة.
وبعد نحو سبعة أشهر من تحرير مدينة المكلا من تنظيم القاعدة عام 2016، وبدء تصاعد أصوات تنادي بتسليم حضرموت عسكرياً لـ"أبنائها"، أقال الرئيس عبدربه منصور هادي، أواخر نوفمبر من العام نفسه، قائد المنطقة العسكرية الأولى اللواء عبدالرحمن الحليلي، وعيّن اللواء الركن صالح محمد طيمس، المنحدر من محافظة أبين، قائداً للمنطقة، وقائداً للواء 37 مدرع، أحد أقوى وأهم ألوية المنطقة.
كما جرى تعيين العميد أحمد حسين الضرّاب، المنحدر من المحافظات الشمالية، رئيساً لأركان المنطقة. وجاء اللواء طيمس من قيادة اللواء 11 حرس حدود، المتمركز في مديرية رماه الحدودية، فيما جرى تعيين العميد الحضرمي فهمي حاج محروس الصيعري خلفاً له في قيادة اللواء، الذي يُعد جزءاً من قوام المنطقة العسكرية الأولى.
وفي أواخر نوفمبر 2016، تم تعيين العميد الركن يحيى محمد أبو عوجا، المنحدر من محافظة عمران، رئيساً لأركان المنطقة، وقائداً للواء 135 مشاة، في خطوة عكست استمرار التوازنات الوطنية داخل قيادة المنطقة، رغم تصاعد الخطاب المناطقي في محيطها السياسي.
عرض عسكري لقوات المنطقة الاولى بسيئون
بيئة صراع وحروب مركبة
تمركزت المنطقة الأولى في بيئة صراع تقليدية، ووجدت نفسها في قلب حرب مركّبة، متعددة المسارات، تُدار في مساحة جغرافية مفتوحة، وبخصوم مختلفين في الشكل، متقاربين في الهدف.
ففي وادي وصحراء حضرموت، وعلى امتداد الطرق الدولية الرابطة بين الشرق اليمني وعمق البلاد، لم تكن مهمة المنطقة مقتصرة على الانتشار العسكري أو حفظ الأمن المحلي، بل تمحورت حول منع انهيار المجال السيادي للدولة في واحدة من أخطر مساحات الجغرافيات اليمنية.
وعانت قوات المنطقة من ضعف في القدرات المادية والبنيوية، وفي المدفوعات والمرتبات التي تتلقاها من الحكومة الشرعية.
يقول ضباط خدموا في المنطقة إن القوات لم تتلق أي سلاح أو ذخائر خلال العشر سنوات الماضية، ولم تتلقى مثل بعض المناطق والتشكيلات أية مدفوعات سعودية.
وحول الملاك البشري يشير الضباط إلى أن الحالات خلال الفترة الماضية تجاوزت الألفين قتيلا وجريحا، ولم يتم اعتماد تعزيز للقوة خلال 10 سنوات كي تتمكن من تعويض القوة وتعزيز ملاكاتها وتجنيد قوة جديدة.
ويقلل الضباط من الحديث عن حجم التسليح والذخائر التي كانت في مخازن المنطقة واستولى عليها الانتقالي، مشيرين إلى أن ذلك التسليح لا يعتبر كافيا مقارنة لما تحتاجه المنطقة من احتياطي وعتاد، فضلا عن تهالك تلك المعدات وحاجتها لقطع غيار.
يقول عسكريون إن المنطقة شاركت بعض وحداتها في تعزيز الجيش والمقاومة في مأرب خلال احتدام معارك التصدي لزحوفات الحوثية المسنودة إيرانيا، ومدت كميات من قدراتها من السلاح والذخائر القديمة للقوات الوطنية في مأرب.
وقد كان وزير الدفاع السابق الفريق محمد المقدشي قد تحدث في تصريحات سابقة حول الحملات التي تستهدف المنطقة. وأشار في حوار نشرته جريدة "الشرق الأوسط" 23 فبراير 2022، إلى أن المنطقة الأولى مشاركة في المعارك ضد الحوثيين، وقال: "هي مجموعة ألوية وهناك لواء يشارك معنا فعلياً هو اللواء 23 ميكانيكي سواء في المعركة بالجوف أو تأمين الطرقات".
وأضاف المقدشي: "سحبنا معظم أسلحة المنطقة وتم تدميرها واستهلاكها وتحتاج هذه المنطقة إلى إعادة تأهيل وتجهيز مرة أخرى". كما أشار إلى أن المنطقة منذ عام 2010 لم يدخلها أي سلاح ولا أي عربة جديدة إلا ما استهلكناه نحن من أسلحتها وذخائرها التي تحتاج إلى تأهيل وتنظيم".
قوات من اللواء 11 حرس حدود خلال استعراض قتالي
الحرب ضد الإرهاب
خاضت المنطقة الأولى مواجهة عنيفة ضد تنظيم القاعدة في جزيرة العرب، الذي كان يسعى لتحويل وادي حضرموت إلى منطقة تواجد دائم، وساحة استعراض، ومنصة لتوسيع نفوذه.
وشهدت المنطقة هجمات انتحارية، وتفجيرات نقاط، واغتيالات لضباط، ومجازر بحق الجنود، كان أبرزها مجزرة الحوطة – سيئون، حيث اختُطف 14 جندياً من اللواء 135 مشاة وأُعدموا بدم بارد.
كما تعرّضت مدينة سيئون لهجوم واسع ومتزامن استهدف مقرات عسكرية، ومؤسسات حكومية، وبنوك، في محاولة لنقل المعركة إلى قلب الوادي وكسر هيبة الدولة.
وخاضت قوات المنطقة الأولى مواجهة مفصلية مع عناصر القاعدة في وادي سر، أحد أهم معاقل التنظيم في حضرموت. وأعلن قائد المنطقة آنذاك اللواء عبدالرحمن الحليلي السيطرة الكاملة على الوادي، وكشف عن معسكرات تدريب، وسيارات مفخخة، ومصانع عبوات ناسفة، ومخازن أسلحة وذخائر، وألغام معدّة للتفجير.
وبإشراف من التحالف العربي بقيادة السعودية، جرى تفجير وإحراق تلك الألغام والعبوات والأسلحة، التي كانت معدّة لاستهداف القوات والمدنيين، منهيةً الوجود المنظم للتنظيم في الوادي، ومغلقةً واحدة من أخطر مساحات تحركه.
وفيما تواجه المنطقة اتهامات بإيواء الإرهاب والتغاضي عن جماعاته، يقول ضباط خدموا في المنطقة، إن قواتها خسرت خلال العقد الأخير أكثر من 600 قتيلا ونحو ألف جريح من ضباطها وأفرادها في مواجهة الإرهاب والتطرف.
التهريب.. حرب أخرى
إلى جانب الإرهاب، تعاملت المنطقة الأولى مع ملف التهريب بوصفه جبهة حرب موازية، لا نشاطاً إجرامياً معزولاً. فالتهريب الذي يستهدف المناطق الشرقية لم يكن مقتصراً على البضائع، بل شمل تهريب قيادات أمنية وعسكرية، وأموال، وأسلحة، وتقنيات، ومخدرات تُستخدم كمصدر تمويل، وخلايا أمنية للتجنيد والاغتيالات.
إذ تعمل شبكات التهريب الحوثية وفق بنية منظمة، تبدأ من صعدة والجوف، وتعبر صحارى حضرموت، وتصل إلى المهرة وسواحلها، ومنها إلى سلطنة عمان، حيث تُدار غرف تنسيق خارجية، وفق ما تؤكده مصادر دفاعية وأمنية.
وتُعد عملية ضبط القيادي الأمني البارز بجماعة الحوثي محمد غالب أحمد دعه، واحدة من العمليات التي نفذتها المنطقة. ففي إحدى نقاط التفتيش التابعة للمنطقة الأولى في صحراء العبر، تم القبض على القيادي دعه واثنين معه، منتصف العام 2021.
أظهرت التحقيقات أن دعه المنحدر من صعدة، كان عائداً من سلطنة عمان بعد لقاءات تنسيقية مع قيادات حوثية تدير من مسقط مركزاً إقليمياً للتهريب والدعم اللوجستي، بإشراف مباشر من الحرس الثوري الإيراني وفيلق القدس.
في الأسابيع التي سبقت إسقاط المنطقة، نفذّت قيادتها عملية انتشار جديدة في المناطق الصحراوية، ونقلت تعزيزات إلى المناطق الشمالية، بموجب أوامر رئاسية، ضمن خطة أمنية واسعة هدفت إلى تشديد الرقابة ومحاربة أنشطة التهريب.
وبعد سيطرة قوات الانتقالي على معسكرات تابعة للمنطقة ونهب الأسلحة والذخائر الموجودة فيها، خرجت روايات تتحدث عن "اكتشاف" شحنات مخدرات ضخمة، متهمة المنطقة بالضلوع في التهريب. والكميات بحسب ضباط المنطقة، هي أقل بكثير مما رُوّج له، وهي لمواد محرزة ضمن قضايا ضبطتها قوات المنطقة، وكانت في طور الإجراءات القضائية.
ضغط سياسي وعمليات أمنية..
بالتوازي مع المعارك الأمنية ضد الإرهاب والتهريب، كانت المنطقة الأولى تواجه جبهة ثالثة أقل صخباً وأكثر تأثيراً. فمنذ عام 2019، كثّف المجلس الانتقالي الجنوبي، المدعوم إماراتياً، حملاته المطالِبة بإخراج قوات المنطقة من وادي وصحراء حضرموت، مقدّماً وجودها بوصفه "قوة شمالية" و"امتداداً للاحتلال".
هذا الضغط لم يقتصر على الخطاب الإعلامي، بل ترجم إلى تحركات سياسية منظمة داخل مؤسسات الشرعية نفسها، مستفيداً من موقع الانتقالي داخل الحكومة لاحقاً، ثم داخل مجلس القيادة الرئاسي، الذي تشكّل في 7 أبريل 2022، بمشاركة ثلاثة أعضاء ممثلين للانتقالي، إضافة إلى ذراعين عسكري وسياسي.
بلغ هذا المسار ذروته عندما أطلق وزير الدفاع الأسبق اللواء هيثم قاسم طاهر، المنحدر من ردفان بمحافظة لحج، ورئيس اللجنة العسكرية والأمنية العليا المساندة لمجلس القيادة الرئاسي منذ أواخر مايو 2022، تهديدات علنية باستخدام القوة لطرد قوات المنطقة العسكرية الأولى من حضرموت.
وفي خضم هذا التصعيد، شهدت حضرموت موجة عمليات إرهابية نوعية، أعادت خلط الأوراق. ففي 19 سبتمبر 2019، تعرّض قائد قوات التحالف في سيئون، العميد الركن بندر بن مزيد العتيبي (أبو نواف العتيبي)، لعملية اغتيال عبر عبوات ناسفة زُرعت في منطقة شبام بوادي حضرموت، أسفرت أيضاً عن مقتل جنديين سعوديين وجنود يمنيين.
الهجوم مثّل ضربة قاسية للتحالف وللمنطقة في آن واحد، وفتح الباب أمام موجة اتهامات وتساؤلات. وبعد سنوات، أعلنت وزارة الداخلية السعودية تنفيذ حكم الإعدام بحق المقيم اليمني قابوس الكثيري، بعد إدانته بالتورط في العملية.
وفي مطلع نوفمبر 2024، وقعت حادثة أخرى بالغة الحساسية داخل أحد المقرات العسكرية التابعة للمنطقة الأولى، حين أقدم أحد الجنود على إطلاق النار على ضباط سعوديين، ما أدى إلى مقتل ضابط وضابط صف، وإصابة ضابط ثالث بجروح.
الحادثة، التي وُصفت بالمعقدة، تمكّن منفذها من الهروب، أو تم تهريبه، وفق روايات متقاطعة. وقد أظهرت المعطيات الأولية أن العملية خُطط لها بدقة عالية، ولا تزال تفاصيلها غامضة حتى اليوم، دون إعلان نتائج تحقيق رسمية شاملة.
جاءت هذه الحادثة في ذروة الاستهداف الممنهج للمنطقة، وتزامنت مع تصاعد المطالب السياسية بإخراج قواتها، ما جعل كثيرين يرون فيها رسالة ضغط أخيرة، مهّدت لما سيأتي بعدها.
تكريم السلطة المحلية للواء طيمس خلال تسليمه قيادة المنطقة للواء الجعيملاني
قرارات وتغييرات...
أجريت في قيادة المنطقة الأولى سلسلة تغييرات متتابعة، وصدرت قرارات سياسية وأمنية متلاحقة أضعفت موقعها، وأربكت بنيتها القيادية، وفتحت الباب أمام إعادة توصيف دورها خارج السياق الوطني الذي تشكّلت فيه.
وبعد نحو تسعة أشهر من تشكيل مجلس القيادة الرئاسي، وتحت ضغط الانتقالي، صدر مطلع ديسمبر2022 قرار باستبعاد العميد الركن يحيى محمد أبو عوجا من منصبه رئيساً لأركان المنطقة العسكرية الأولى، وتعيين العميد الركن عامر عبدالله محمد بن حطيان، المنحدر من حضرموت، بديلاً عنه.
ورغم احتفاظ أبو عوجا مؤقتاً بقيادة اللواء 135 مشاة، فإن هذا التغيير شكّل نقطة مفصلية في مسار إضعاف المنطقة، وبدأت عملية إعادة تشكيل تدريجية لمراكز القرار.
وفي الشهر ذاته، جرى استبعاد عصام حبريش الكثيري، من منصبه وكيلاً لمحافظة حضرموت لشؤون الوادي والصحراء، وتعيينه وكيلاً في وزارة الإدارة المحلية. وكان يُنظر إلى حبريش بوصفه الرجل الأقوى في الوادي والصحراء، والحاكم الفعلي للمنطقة بحكم موقعه ونفوذه، ما جعل إبعاده خطوة ذات دلالة سياسية واضحة. وعُيّن الشيخ عامر سعيد سالم العامري بديلاً عنه.
الإبعاد الأخير
استجابة لضغوط المجلس الانتقالي، صدر أواخر ديسمبر 2024 قرار بإبعاد اللواء الركن صالح محمد طيمس، من قيادة المنطقة العسكرية الأولى، وتعيين اللواء الركن صالح محمد الجعيملاني، المنحدر من محافظة أبين، بديلاً عنه.
وبعد فترة قصيرة، وفي الثاني من ديسمبر، شنّت قوات المجلس الانتقالي هجوماً دموياً على مواقع المنطقة، أسفر، وفق بيانات هيئة الأركان العامة، عن مقتل نحو 30 ضابطاً وجندياً، وإصابة 45 آخرين، إضافة إلى مفقودين، مع اتهامات للانتقالي بتصفية جرحى ومحتجزين.
بهذا الهجوم، سقطت المنطقة العسكرية الأولى، وتم سحب ما تبقى من قواتها إلى خارج حضرموت وإعادة تمركزها في صحراء مأرب.
وبذلك، أفضى المسار السياسي المعقد إلى إسقاط آخر تشكيل نظامي حافظ على رمزية الدولة في حضرموت، وفتح مرحلة جديدة من الصراع على الجغرافيا والثروة والقرار في الشرق اليمني، وسوف تمتد ارتداداته لفترة قد تطول كثيرا.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news