العرب
رحبت دول عربية، الثلاثاء، باتفاق تبادل الأسرى والمحتجزين بين الحكومة اليمنية وجماعة الحوثي، الذي تم توقيعه في العاصمة العُمانية مسقط بعد 11 يومًا من المشاورات، في خطوة وُصفت على نطاق واسع بأنها تطور إنساني لافت قد يسهم في تعزيز الثقة بين أطراف النزاع وفتح نافذة جديدة، ولو محدودة، أمام مسار السلام المتعثر في اليمن منذ أكثر من عقد.
ويأتي هذا الاتفاق، الذي يقضي بتبادل نحو 2900 أسير ومعتقل من الجانبين برعاية الأمم المتحدة واللجنة الدولية للصليب الأحمر، في لحظة سياسية وأمنية شديدة الحساسية، سواء على المستوى اليمني الداخلي أو في الإطار الإقليمي الأوسع.
وبعد سنوات من الجمود العسكري والسياسي، باتت الملفات الإنسانية تشكل المسار الأقل كلفة والأكثر قابلية للتوافق، في ظل إدراك متزايد لدى الأطراف بأن استمرار الصراع لم يعد يحقق مكاسب استراتيجية حاسمة لأي طرف.
ويعكس الترحيب العربي الواسع بالاتفاق، من سلطنة عمان والسعودية والكويت، مرورًا بمجلس التعاون الخليجي، وصولًا إلى جامعة الدول العربية، تقاطعًا واضحًا في المواقف الرسمية تجاه أولوية تخفيف المعاناة الإنسانية في اليمن. لكنه في الوقت ذاته يكشف عن محاولة جماعية لإعادة إحياء مناخ الثقة، بعد تعثر المبادرات السياسية الكبرى، وفشل الجهود السابقة في الانتقال من التهدئة المؤقتة إلى تسوية شاملة ومستدامة.
وفي هذا السياق، يبرز الدور العُماني بوصفه عنصرًا محوريًا في إنجاح المشاورات. فاستضافة مسقط للمفاوضات على مدى 11 يومًا، وما تلاها من إشادة عربية ودولية بـ”الروح الإيجابية” التي سادت الحوار، تؤكد استمرار سلطنة عمان في لعب دور الوسيط المقبول من مختلف الأطراف، مستفيدة من سياستها المتوازنة وعلاقاتها المفتوحة مع الحكومة اليمنية وجماعة الحوثي على حد سواء.
ولا يقتصر هذا الدور على الجانب الإجرائي، بل يندرج ضمن مقاربة أوسع تسعى إلى تثبيت قنوات التواصل في نزاع تتداخل فيه الأبعاد المحلية والإقليمية.
وأما السعودية، فقد جاء موقفها الداعم للاتفاق منسجمًا مع التحول الذي انتهجته خلال السنوات الأخيرة في مقاربة الملف اليمني. فبعد مرحلة طويلة من الانخراط العسكري المباشر، باتت الرياض أكثر ميلاً إلى دعم المسارات التفاوضية والإنسانية، إدراكًا منها لكلفة استمرار الحرب، وانعكاساتها الأمنية والاقتصادية والإقليمية.
ومن هنا، يمكن قراءة الترحيب السعودي بالاتفاق باعتباره جزءًا من استراتيجية تهدف إلى تثبيت التهدئة القائمة منذ أبريل 2022، وتهيئة الأرضية لحلول سياسية أكثر شمولًا.
وعلى الصعيد الدولي، يضفي إشراف الأمم المتحدة واللجنة الدولية للصليب الأحمر على الاتفاق بعدًا قانونيًا وإنسانيًا مهمًا، لكنه في الوقت نفسه يسلّط الضوء على محدودية قدرة المجتمع الدولي على تجاوز إدارة الأزمة نحو حلها جذريًا.
ويفتح غياب جدول زمني واضح لتنفيذ الاتفاق، وعدم الإعلان عن آلياته التفصيلية، الباب أمام احتمالات التعثر، خصوصًا في ظل تجارب سابقة شهدت تأجيلًا أو تعثرًا في تنفيذ اتفاقات مماثلة.
ورغم أن الاتفاق يُعد الأوسع منذ اندلاع الحرب قبل أكثر من عشر سنوات، إلا أنه يظل جزءًا من ملف أكبر وأكثر تعقيدًا. فالتقديرات الحقوقية تشير إلى وجود نحو 20 ألف أسير ومعتقل لدى الطرفين، ما يعني أن الصفقة الحالية، مهما بلغ حجمها، لا تعالج سوى جزء من المأساة الإنسانية المستمرة. كما أن استمرار الغموض بشأن الأعداد الدقيقة للأسرى يعكس عمق أزمة الثقة، وغياب آليات شفافة لتبادل المعلومات بين الأطراف المتنازعة.
وسياسيًا، يكتسب الاتفاق دلالته من كونه اختبارًا جديدًا لإرادة الأطراف في الانتقال من إجراءات بناء الثقة إلى معالجة جذور الصراع. فمنذ اتفاق ستوكهولم عام 2018، مرورًا بصفقات التبادل الجزئية في 2023، ظل التقدم محصورًا في خطوات إنسانية محدودة، دون أن يُترجم إلى مسار سياسي شامل يعالج قضايا جوهرية مثل شكل الدولة، وتقاسم السلطة، ومستقبل السلاح، ودور الفاعلين المحليين المتعددين.
وتزداد هذه التحديات تعقيدًا في ظل التطورات الأمنية الأخيرة في جنوب اليمن، ولا سيما سيطرة المجلس الانتقالي الجنوبي على محافظتي حضرموت والمهرة، ما يعيد إلى الواجهة مخاوف جدية من تفكك الدولة أو انزلاقها نحو مسارات تقسيم فعلية.
وفي هذا السياق، تبدو أي خطوة إنسانية، بما فيها تبادل الأسرى، معرضة لفقدان زخمها السياسي إذا لم تُدرج ضمن مقاربة شاملة تأخذ في الحسبان التحولات الميدانية وتشظي مراكز القوة.
ويمثل اتفاق تبادل الأسرى في مسقط تطورًا إنسانيًا مهمًا وخطوة إيجابية في مسار بالغ التعقيد، لكنه يظل محدود الأثر ما لم يُستثمر سياسيًا في فتح مسار تفاوضي أوسع.
وقد يعزز نجاح التنفيذ الثقة ويمهّد لإجراءات إضافية تخفف معاناة اليمنيين، بينما سيعيد أي تعثر إنتاج حلقة الشك والجمود.
وبين هذين الاحتمالين، يبقى مستقبل السلام في اليمن مرهونًا بقدرة الأطراف المحلية، وبدعم إقليمي ودولي متماسك، على الانتقال من إدارة الأزمة إلى تسويتها بشكل شامل ومستدام.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news