اليمن على شَفَا جُرُفٍ هارٍ - ٣ (ضمانات إنجاح مسارات الإنقاذ)
قبل 11 دقيقة
لم تكن أزمة اليمن، في جوهرها، أزمة نقص في المبادرات أو شحّ في المقترحات السياسية، بقدر ما كانت أزمة تنفيذ وضمانات. فالتجربة اليمنية خلال العقود الماضية، ولا سيما خلال سنوات الحرب، أثبتت أن أخطر ما يواجه الدولة ليس غياب الحلول، بل تحوّل الحلول نفسها إلى مدخل لإعادة إنتاج الفشل، حين تُدار كتسويات هشّة، أو تُترك بلا أطر ملزمة، أو تُختطف من قبل مراكز القوة خارج الدولة.
وانطلاقاً من المسارات الدستورية والسياسية التي جرى طرحها في الجزء (٢)، فإن السؤال الحاسم اليوم لم يعد: ما هو الحل؟ بل: كيف نمنع انهياره قبل أن يبدأ؟ وكيف نضمن ألا يتحول الانتقال السياسي إلى حلقة جديدة في سلسلة الإخفاق الوطني؟
أول هذه الضمانات يتمثل في التحصين الدستوري والقانوني للمرحلة الانتقالية. فغياب الأطر المحددة زمنياً وصلاحياتياً كان دائماً بوابة للتمدد غير المشروع، وتفريغ المؤسسات من مضمونها. إن أي تفويض سياسي يجب أن يكون مكتوباً، واضحاً، ومحدداً بسقف زمني، مع تفعيل الدور الرقابي لمجلس النواب بوصفه ممثلاً للإرادة الشعبية، لا مجرد غطاء شكلي للسلطة. فالدولة لا تُبنى بالنيات، بل بالقواعد الملزمة التي تمنع تغوّل الأفراد والجماعات وشطوحها.
أما الضمان الثاني، وهو الأكثر حساسية، فيتعلق بـتوحيد المؤسسة العسكرية والأمنية. فلا معنى لأي انتقال سياسي في ظل سلاح منقسم وولاءات متعددة. إن التجربة اليمنية تؤكد أن ازدواج القوة يعني ازدواج القرار، وأن الدولة لا يمكن أن تستعيد هيبتها ما دام السلاح خارج إطارها. ولا يعني ذلك حلولاً ميدانية متعجلة أو صدامات عبثية، بل مساراً تدريجياً واضح المعالم، يقوم على فصل السلاح عن السياسة، وإنهاء البنى الفصائلية، وإعادة بناء المؤسسة العسكرية على أسس وطنية ومهنية، تخضع للسلطة المدنية، لا للتوازنات المناطقية أو الحسابات الخارجية.
ويبرز الضمان الثالث في إعادة تعريف دور التحالف العربي في المرحلة المقبلة. فمع الإقرار بكونه فاعلاً مؤثراً في المشهد اليمني، فإن استمرار دوره بوصفه مديراً للأزمة أو موزِّعاً لتوازنات النفوذ لن يقود إلى استقرار دائم. إن المرحلة الراهنة تقتضي انتقال هذا الدور إلى رعاية فعلية لمسار بناء الدولة، بما ينسجم مع منطق السيادة ووحدة القرار. فدعم الأشخاص أو الكيانات بمعزل عن المؤسسات لم يفضِ إلا إلى تعميق الانقسام، بينما المطلوب اليوم هو دعم مسار يوحّد القرار السياسي والعسكري، ويمنع تحوّل اليمن إلى ساحة مفتوحة لتعدد السلطات وتنازع المرجعيات، ومعلوم أن للمملكة العربية السعودية والإمارات العربية - باعتبارها قائدتا التحالف - من النفوذ والأوراق الضاغطة ما يكفي لتوجيه دفتي الأمور في اليمن وصولاً بها لبر الأمان والاستقرار.
أما الضمان الرابع فيتمثل في المعالجة العادلة والمسؤولة للقضية الجنوبية بوصفها ركناً تأسيسياً في أي مشروع وطني جامع. فالقضية الجنوبية ليست ملفاً مؤجلاً، ولا ورقة تفاوضية ظرفية، بل أحد مفاتيح استقرار الدولة ووحدة كيانها السياسي. ولا يعني اعتبارها ضمانةً التعجيل بحسم شكل الدولة أو فرض صيغة مسبقة للوحدة، بل ضمان إدارة عادلة ومسؤولة للقضية خلال المرحلة الانتقالية، إلى أن تتوفر شروط الحسم الديمقراطي في ظل دولة مستقرة ومؤسسات فاعلة.
إن التعامل معها كشعار أو أداة ضغط لن يؤدي إلا إلى تعقيدها، كما أن حسمها خارج إطار الدولة، وفي ظل حرب وانقسام، لن ينتج عدالة ولا استقراراً. والمعالجة الواقعية تقتضي نقلها من منطق الصراع إلى منطق الدولة، عبر شراكة حقيقية، وضمانات سياسية واقتصادية، وحسم نهائي يتم عبر مؤسسات منتخبة وإرادة شعبية، في إطار صيغة دستورية متوافق عليها، لا عبر تفاهمات نخبوية مؤقتة.
إن أخطر ما يواجه اليمن اليوم ليس الانهيار المفاجئ، بل التآكل البطيء للدولة تحت عناوين الحلول والمرحلة الانتقالية. فكم من تسوية رُفعت بوصفها مخرجاً، فإذا بها تتحول إلى قيد جديد، وكم من انتقال أُعلن كأمل، فإذا به يصبح حالة دائمة تُدار بلا أفق. ولهذا، فإن منع إعادة إنتاج الفشل يقتضي كسر حلقة الشخصنة، وتحجيم منطق المحاصصة، وإعادة الاعتبار لفكرة الدولة بوصفها كياناً فوق الأفراد والجماعات.
ختاماً، لا يزال اليمن يقف على حافة خيارين: إما التمسك بالدولة، رغم هشاشتها وكلفة إصلاحها، أو الانزلاق إلى مسارات مفتوحة لا سقف لها ولا نهاية. إن الضمان الحقيقي لأي حل لا يكمن في براعة النصوص وحدها، بل في الإرادة السياسية للالتزام بها، وفي وعي النخب بأن الدولة، بكل عيوبها، تظل الإطار الوحيد القادر على حماية المجتمع من الفوضى. وما لم يتحول هذا الوعي إلى ممارسة، ستظل الحلول تُولد ضعيفة، وتموت قبل أن نرى اليمن الذي يستحقه أبناؤه.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news