اليمن على شَفَا جُرُفٍ هارٍ - ٢ .. (المسارات الدستورية لإنقاذ الدولة)
قبل 29 دقيقة
سبق الإشارة في مقالنا (الجزء ١) إلى أن الأزمة في اليمن لم تعد محصورة في الصراع على السلطة، بل باتت تهدد جوهر الدولة نفسها. فضعف مؤسسات الدولة وتعدد مراكز النفوذ يهددان البلاد بالانزلاق نحو فراغ سياسي وسيادي، مما يفاقم الصراعات ويعقد أي حل وطني مستدام.
وفي هذا السياق، يصبح البحث عن حلول عملية تضمن استمرار الدولة ووحدة القرار ضرورة قصوى، ضمن الإطار الدستوري والقانوني المتاح، بعيدًا عن المغامرات السياسية أو القفز على الشرعية.
إن الخيار الأكثر واقعية للحفاظ على الشرعية الدستورية ومنع الانزلاق إلى فراغ سيادي يتمثل في العودة إلى رئاسة فردية واضحة المعالم، عبر إعادة هادي بوصفه رئيسًا فخريًا، بعد قيامه بسحب التفويض الممنوح له لمجلس القيادة الرئاسي. ولا ينبغي فهم هذا الطرح على أنه سعي لإعادة إنتاج المرحلة السابقة أو استدعاء تجربة ثبت قصورها، بل باعتباره حلًا انتقاليًا اضطراريًا تفرضه الضرورة الدستورية للحفاظ على الشكل القانوني للسلطة ومنع انهيار مرجعية الدولة.
وتنبع وجاهة هذا الخيار من أن هادي يظل الرئيس الشرعي الوحيد المستفتى عليه شعبياً وفق المسار الدستوري (نظام الاستراَس) الذي تضمنته المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية باعتبارها وثيقة معدلة للدستور، بخلاف أي ترتيبات لاحقة فرضتها ظروف الحرب والانقسام. وهو ما يمنح الدولة اليمنية ميزة قانونية وسيادية في تعاملها مع المجتمع الدولي، إذ يُحدث فارقًا جوهريًا في الندية والمعاملة الرسمية.
ويتم عقب ذلك قيام هادي بتعيين شخصية شمالية لتولي منصب نائب الرئيس بصلاحيات رئاسية واسعة لإدارة المرحلة الانتقالية وتوحيد القرار السيادي، المشتت حاليًا في ظل مجلس القيادة على ثمانية رؤوس متعددة النفوذ ومتباينة الأيدلوجيات، على أن تظل رئاسة الحكومة تحت قيادة شخصية جنوبية، بما يحقق توازنًا مؤسسيًا وسياسيًا ويحافظ على الأعراف الدستورية والسياسية، مع دور محوري للتحالف العربي في دعم هذا المسار، ولا سيما في ما يتعلق بتوحيد المؤسسة العسكرية والأمنية وضمان تنفيذ الترتيبات الانتقالية دون انتكاس أو فراغ دستوري.
وكخيار إضافي قابل للنقاش، يمكن إسناد منصب نائب الرئيس إلى شخصية تحظى بقبول وطني وإقليمي ودولي ولم تتورط في صراعات المرحلة الراهنة، لتعزيز وحدة الصف الجمهوري والالتفاف حول الشرعية. ويُذكر في هذا السياق أحمد علي عبدالله صالح كمثال لا حصرًا، نظرًا لقدرته على جذب قطاعات واسعة من المكوّن السياسي والعسكري وخبرته السياسية والعسكرية كنائب رئيس أكبر حزب في اليمن وقائد سابق للحرس الجمهوري والقوات الخاصة. ومع ذلك، يظل هذا الطرح مقترحًا مفتوحًا للنقاش، يخضع للتوافق الوطني، وليس محاولة لإعادة إنتاج أشخاص أو مراحل سابقة.
أما الحل الدستوري البديل، فيتمثل في تقديم مجلس القيادة الرئاسي استقالته إلى مجلس النواب، حيث وأمام المجلس تؤدى اليمين الدستورية، فتؤول السلطة وفقًا للدستور إلى رئاسة مجلس النواب (سلطان البركاني، محمد الشدادي، عبدالعزيز جباري، ومحسن باصرة) باعتبارها الممثل الدستوري للشعب والحارس القانوني للشرعية، بما يحفظ الشكل الدستوري للسلطة، ويحول دون الانزلاق إلى فراغ سيادي، ويضمن استمرار الدولة بوحدتها الرسمية حتى التوصل إلى تسوية سياسية شاملة.
صحيح أن هذا الخيار يعيد البلاد، من حيث الشكل، إلى صيغة الرئاسة الجماعية، إلا أن الفارق الجوهري يتمثل في أن هذه الصيغة تستند إلى أساس دستوري صريح، وتمتد إليها الشرعية من مصدرها الشعبي، باعتبار أن أعضاء هيئة رئاسة مجلس النواب شخصيات مدنية منتخبة اختارها الشعب عبر صناديق الاقتراع، وإن كانوا يمثلون أحزابًا وتيارات سياسية مختلفة. كما أن الطبيعة المدنية لهذه الصيغة، وابتعادها عن الطابع العسكري أو المليشياوي، يمنحها أفضلية إضافية في مرحلة تتطلب تقليص عسكرة السياسة وإعادة ربط السلطة بالإرادة الشعبية، ولو في حدها الأدنى.
ويستند هذا المسار، إضافة إلى ما سبق، إلى نص دستوري واضح يقضي بتولي هيئة رئاسة مجلس النواب مهام رئاسة الدولة في حال تقديم رئيس الجمهورية استقالته في ظل عدم وجود نائب له، وهو ما يجعل هذا الخيار امتدادًا قانونيًا مباشرًا للشرعية، لا اجتهادًا سياسيًا أو ترتيبًا استثنائيًا مفروضًا بحكم الواقع، ويحصّنه من الطعن في مشروعيته الدستورية.
وفيما يتعلق بالوحدة الوطنية، يفرض الواقع تأجيل إعادة صياغتها إلى ما بعد استعادة كامل التراب الوطني واستقرار الدولة سياسيًا وأمنيًا، بحيث يمكن حينها إعادة النظر في شكل الوحدة بما يعالج الاختلالات التاريخية ويحقق العدالة السياسية. ويتم ذلك عبر خيارات متعددة، من بينها الحفاظ على نظام وحدوي اندماجي برئاسة جنوبية خلال فترة انتقالية يعقبها الاحتكام إلى الصندوق لاختيار رئيس الدولة، أو الانتقال إلى نموذج فيدرالي متعدد الأقاليم، أو منح المحافظات حكمًا محليًا واسع الصلاحيات في إطار الدولة الموحدة.
إن الالتزام بهذه المسارات العملية والحلول الدستورية حتماً يعيد الاعتبار إلى رمزية الدولة ووحدتها، ويجنب اليمن الانزلاق نحو الفراغ والفوضى، ويمنع إغراقه في أتون صراعات مفتوحة كلفتها باهظة، والخاسر الأكبر فيها هما: الشعب والوطن.
*باحث في المجال الدستوري
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news