مقبول الرفاعي/ فيينا – النمسا:
في ليلةٍ فييناويّةٍ تتجاور فيها اللغات كما تتصافح الحضارات، احتفللنا في رحاب البيت العربي النمساوي للثقافة والفنون ، باليوم العالمي للغة العربيّة.
لم يكن الاحتفاء طقساً سنويا عابرا، بل لحظةَ استدعاءٍ لذاكرةٍ لغويّةٍ حيّة، ترفض أن تُختزل في نحوٍ وصرف،
أو أن تُحبس في حدود الجغرافيا.
تجلّت العربيّة في تلك الأمسية شعراً يُغنّي الوجدان، ونثراً يلامس الفكر، وفنا يُجسّد المعنى، وحكاياتٍ تُعيد اللغة إلى أصلها الإنساني.
لغةٌ إذا نُطِقَت، لم تُسمَع فقط،
بل يُشعربها ، وإذا كُتِبَت، لم تُقرأ فحسب، بل تفتح بابا للحوار مع الذات .
تُجمع الأُمّة العربيّة، على اختلاف مشاربها، أن العربيّة ليست مجرّد أداة تواصل، بل كيانٌ نابض ،
صوتُ صداها الحب ،
وإيقاعُ كلماتها الأُلفة،
ونبضُ بلاغتها التواصل.
ومن هنا يطلّ السؤال، لا بوصفه استفهاماً لغوياً، بل جرحا ثقافياً مفتوحاً.
هل تعي الأُمّة العربيّة، شعوباً وقادة، أن اللغة التي ينطق بها أكثر من خمسمئة مليون عربي، هي إحدى ركائز قوّتها القليلة المتبقية؟
وهل يمكن لهذه الرِّقّة اللغويّة أن تُرمّم ما تكسّر في الجسد العربي؟
العربيّة هي القاسم المشترك الأوسع بين العرب، في زمنٍ تآكلت فيه القواسم الأخرى .
جسرٌ صمد، رغم ما انهار حوله .
نختلف في السياسة والرؤى والمصالح، لكننا حين نلتقي في اللغة، نلتقي في منطقةٍ آمنةٍ من الفهم، حيث تُخفَّف حدّة الخلاف، ويُعاد تعريف الآخر .
ليست العربيّة لغة الماضي، ولا عبئاً ثقافياً كما يُصوّرها بعضهم .
هي لغةٌ احتوت الفلسفة والعلوم، وسكنت الشعر والثورة، ووازنت بين القداسة والإنسان .
لغةٌ مرنة، غنيّة، قابلة للتجدّد، إذا ما سُمح لها أن تعيش لا أن تُحنَّط .
غير أن المفارقة المؤلمة، أننا نحتفي بالعربيّة في المهرجانات، ونُهمِلها في السياسات التعليميّة، ونُمجّدها في الخُطب، ونُقصيها في الإعلام اليومي.
نبكي على ضعفها، بينما نشارك بصمتٍ أو بغيره في تهميشها .
إن تشرذم العرب ليس لغوياً بل إراديٌّ في جوهره .
فاللغة التي وحّدت وجدانهم قرونا، لا تزال قادرة على لعب هذا الدور، إن نُظر إليها كقوّةٍ ناعمة، لا كزينة ثقافيّة .
قوّةٌ تخاطب العقل والقلب معًا، وتُمهّد لحوارٍ أعمق من السياسة .
نُدركُ أن العربية ليست عصا سحريّة، لكنها شرطٌ أساسي لأي مشروع وحدة وجدانيّة .
فمن لا يتشارك لغة الشعور، يعجز عن بناء رؤيةٍ مشتركة.
في فيينا، بعيداً عن العواصم العربيّة المثقلة بالخلافات، بدت العربيّة أكثر صفاءً الليلة الماضية ، كأنها تذكّرنا بما يمكن أن نكونه ، لا بما صرنا إليه.
وربما في هذا البُعد الجغرافي، اقتربنا أكثر من جوهرها .
فهل نملك الشجاعة لنُصغي؟
وهل نؤمن أن رِقّة العربيّة ليست ضعفًا، بل شكلٌ راقٍ من القوّة؟
لغةٌ إن أُحسِن الإصغاء إليها، قد لا تُوحِّد الجغرافيا، لكنها قادرة على الأقل أن تُوحِّد المعنى.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news