من وحي ما حدث اليوم في محافظة شبوة
لا ريب إن ظاهرة العنف كمؤسسة تاريخية تضرب بجذورها في الأعماق البعيدة لكينونة المجتمع البشري عامة، ومجتمعنا العربي الإسلامي تحديدًا، إذ لا يزال العنف يمتلك حضورًا طاغيًا وعنيفًا في حياتنا الراهنة، وهذا ما نلاحظه كل يوم من أحداث فظيعة، قتل واغتصاب واختطاف وسطو وسرقة ونهب وخصومات وضغائن وانتقام… إلخ. وربما كان الثأر من بين جميع مظاهر العنف أخطرها على الإطلاق، ذلك لأن (الثأر الحر) يشكّل حلقة مفرغة وعملية لامتناهية ولا محدودة من ديمومة العنف والعنف المضاد؛ ففي كل مرة ينبثق منها من نقطة ما في الجماعة مهما كانت صغيرة، يميل إلى الاتساع والانتشار (كالنار في الهشيم) إلى أن يعم مجمل الجسد الاجتماعي برمته، ويهدد وجوده بالخطر.
وهذا هو ما نراه كل يوم في اليمن الذي عجزت نخبه السياسية عن تأسيس دولته العادلة – أقصد الدولة بوصفها مؤسسة المؤسسات الوطنية الجامعة، هي البيت السياسي المشترك للمواطنين القاطنين في مكان وزمان متعيّنين، بينما السياسة هي اللعبة التي يمارسها سكان البيت في الصراع على عناصر القوة؛ السلطة والثروة والوظيفة العامة والجاه والتمثيل… إلخ. فإذا لم تؤسَّس الدولة على أساس تعاقدي دستوري مدني يكفل حقًا متساويًا لجميع المتعاقدين في العيش الكريم والوصول والحصول على الفرص، فمن العبث الحديث عن السياسة ونتائجها.
اليمنيون عجزوا عن تأسيس بيتهم السياسي المشترك (الدولة)، فصاروا يتصارعون في الشارع على الجثة المتعفنة. وصراع الشوارع لا حكم عليه ولا معيار له. حرب الجميع ضد الجميع! وقد كتبت في ذلك مقالات عدة، منها (اليمن الذي لم تفهمه نخبه بعد). وبسبب غياب النظام السياسي الجامع، ظلت مؤسسة الثأر التقليدية الجاهلية حية وفاعلة سياسيًا، تؤثر في حياة الناس بأشد مما تؤثر فيهم تقلبات الظروف الطبيعية (الأحوال المناخية التي منها: الرياح والحر والبرد والخصب والجدب والعواصف والفيضانات والإعصار والزلازل والبراكين والأوبئة حسب بول فاليري).
وما حدث في اليمن اليوم وفي غيرها من البلدان العربية يعد أسوأ بما لا يقاس مما يمكن أن تفعله أشد الكوارث الطبيعية فتكًا. فما أخطر السياسة وما أفدح شرورها إذ تُركت تمشي على حلّ شعرها؟! ربما كان الفرق بين الكوارث الطبيعية والشرور الاجتماعية يكمن في أن الطبيعية لا تفرق بين الكائنات الحية وغير الحية التي تفتك بها، بينما الشرور الاجتماعية والسياسية تستهدف ضحاياها بمبررات أيديولوجية عبثية لم ينزل الله بها من سلطان.
الطبيعية تعيد الإنسان إلى حالته البيولوجية الأولى بوصفه كائنًا أرضيًا بين الكائنات الأخرى التي تقع على درجة متساوية من الظلم والضرر؛ لأنها ببساطة بلا قلب أو عيون، بينما السياسة والأيديولوجيا تختار ضحاياها بقسوة لا مثيل لها. بل إن السياسة تؤثر في حياة الناس تأثيرات بعيدة المدى وفادحة النتائج، ويبلغ تأثيرها الغائر الطبقات العميقة للذاتية الاجتماعية والفردية. ولسنا بحاجة إلى التذكير هنا بمدى ذلك الأثر الفاجع الذي أحدثته شرور السياسة في حياة مجتمعاتنا العربية الراهنة، والحالة اليمنية هي أحد أبرز تجليات تلك الكارثة السياسية.
إذ إن أقل عنف يمكن أن يدفع إلى تصاعد كارثي، لا سيما في مجتمعنا المساواتي، وفي ظل غياب الدولة والمؤسسات العامة. فنحن جميعًا نعرف إن مشهد العنف له شيء من (العدوى)، ويكاد يستحيل أحيانًا الهروب من هذه العدوى؛ فاتجاه العنف يمكن بعد التمحيص أن يظهر التعصب مدمّرًا كالتسامح. وعندما يصبح العنف ظاهرًا، يوجد أناس ينساقون إليه بعفوية وحماسة لا شعورية، ويوجد آخرون منهم يعارضون نجاحاته، ولكن هؤلاء المعارضون السلبيون هم ذاتهم غالبًا الذين يتيحون له الفرصة للشيوع والهيمنة.
ويشبّه رينيه جيرار في كتابه المهم (العنف المقدس) العنف في المجتمعات التقليدية الثأرية كمجتمعنا الراهن باللهب الذي يلتهم كل ما يمكن أن يُلقى عليه بهدف إطفائه.
لقد أدرك أبناء الصبيحة الكرام – الذين يتسمون بالصدق مع أنفسهم والآخرين – خطر سقوط المؤسسات العامة وعودة الحياة الاجتماعية إلى الحالة الطبيعية (حرب الجميع ضد الجميع) المتمثلة في المؤسسة القبلية الثأرية الجهنمية، التي أذاقوا مرارتها مثلهم مثل غيرهم من القبائل اليمنية الشرسة، ففكروا بإيجاد حلٍّ لظاهرة الثأر المرهقة، فأنجزوا ميثاق الشرف الجدير بالأهمية والقيمة والاعتبار، إذ جاء فيه ما يلي:
وبحمد الله فقد توفّق الجميع من مشايخ ووجهاء الصبيحة في استكمال عملية التوقيع على الوثيقة، والمكوّنة من 11 فقرة، كالآتي:
((1/ دم الإنسان وماله وعِرضه حرام، وأن الوسيلة الوحيدة لحل الخلافات عبر الحوار والاحتكام للشريعة الإسلامية والقوانين والأعراف المتوارثة في مجتمعنا، والوصول إلى إجماع الرأي من أجل السلم الاجتماعي.
2/ الابتعاد عن التخوين والتحريض وسوء الظن، والوقوف صفًا واحدًا ضد المعتدي، سواء كان من خارج أبناء الصبيحة أو من بين مجتمعها بمختلف مكوناتها، دون التفريق بين فئات المجتمع، وأن أبناءها أُمّة واحدة لا فرق بين أسود وأبيض.
3/ أن الصبيحة مجتمع ذو هوية راسخة ضاربة في عمق التاريخ، تقبل بالشراكة بين أطياف مجتمعها وخارجه.
4/ أن الصبيحة كتلة جغرافية واحدة: سواحل وجبال وهضاب وصحراء ووديان وجزر وأبحار، ويلتزم الجميع بالحفاظ على هويتها والدفاع عن خصوصيتها وسيادتها، وعدم إثارة النعرات الجاهلية والطائفية والمذهبية التي تؤدي إلى تمزيق المجتمع.
5/ على أن يكون مجتمع الصبيحة ومصالحها مقدّمة على كل التوجهات والمكونات الحزبية، والعمل بالنهوض بما يلبي طموحات أبنائها.
6/ لا يمثل إرادة الصبيحة غير أبنائها، ولا سيادة على أراضيهم لغيرهم، ويلتزم الجميع بتمكين أبناء الصبيحة بحسب الاستحقاقات.
7/ البراءة من كل الخارجين عن القانون، أو المنتمين للتنظيمات الإرهابية، والمروّجين للمخدرات والأشياء الضارة، وعدم الوقوف معهم أو الدفاع عنهم أو إيوائهم.
8/ نصرة المظلوم والدفاع عنه، وألّا يكون الطارف غريمًا، وتصديقًا لقول الله: (ولا تزرُ وازرةٌ وزرَ أُخرى) صدق الله العظيم.
9/ أن يكون هذا العهد فيما ذُكر سابقًا مقدسًا أمام الله، وعهدًا مهدومًا مردومًا لا رجعة فيه إلى صراب الحيود، ما دام الله يُعبد والماء يُورد والغراب أسود والناس ركع وسجد، والصلاة على محمد، على عدم سفك الدماء وعدم نهب الأموال والحقوق وغير ذلك، ملتزمون بنشر الأمن والأمان والسلام، ولا نقض لهذا الميثاق والعهد، مراقبةَ الله تعالى في عهدنا.
10/ بموجب هذا العهد، أي شخص يرتكب أي جُرم أو حادث بعد هذا الميثاق يُعتبر حادثًا جنائيًا فرديًا يتحمّله الشخص نفسه، ولا يتم إيواؤه أو التستر عليه، ويُسلّم للقضاء أو القانون لقول الفصل فيه، وعلى جميع الموقّعين الوقوف ضده.
11/ على هذا عهدنا، ومن خان لا كان، والله حسيبه ورقيبه)).
إننا إذ نشد على يدي من أنجز هذه الوثيقة الهامة، نحيي أبناء الصبيحة الكرام على هذه الاستجابة الفعّالة لهذه الوثيقة التاريخية، ونتمنى أن تحذو كل القبائل اليمنية حذوكم. ولما كنت أعرف ماذا يعني الثأر ومخاطره، فهذه الوثيقة التي أنجزها أبناء الصبيحة لها معانٍ كبيرة في نظري.
غير أن هذا الجهد الشعبي الأهلي يحتاج إلى دعم وتعزيز قوي وفوري من السلطة الرسمية في محافظة لحج والحكومة الشرعية، ذلك لاعتقادنا بأن الثأر بوصفه مؤسسة تقليدية راسخة في المجتمع اليمني ليس بالأمر الهيّن الذي يمكن علاجه بمجرد تشكيل لجان صلح أو توقيع عهود، بل هو مشكلة عسيرة وبنية معقّدة التركيب. وفي سبيل فهمه وتفكيك بنيته، لا بد من تسليط الضوء والبحث العميق في البنية الثقافية الكلية لمجتمعنا التقليدي، والشروط التي تجعل من هذا السلوك المدمّر قابلًا للوجود والحضور والازدهار.
والسؤال هنا: ليس ماذا يفعل الناس ويقولون ويفكرون؟ بل لماذا يفعلون ما يفعلونه، ويعتقدون ويقولون ما يقولونه في سياق ممارستهم اليومية الحيّة المباشرة الفورية؟! وذلك لأن العنف والثأر يوجدان في صميم الطقوس والأساطير والقيم والمعتقدات التي تشكّل حياة وسلوك الناس في بلادنا ذات البنية الاجتماعية القبلية.
فما هو الثأر؟ وكيف يمكن لنا اجتثاث عروقه الشريرة؟ يرى الباحث الأنثروبولوجي ((لويس مير)) أن للثأر معاني متعددة، أهمها:
1. العداء الناجم عن اعتداء.
2. شعور المعتدى عليه بوجوب الثأر لنفسه.
3. شعور أفراد جماعة المعتدى عليه أن الاعتداء قد وقع على كل فرد من أفرادها، لذلك يتوجب على كل فرد فيها أن يثأر لنفسه.
4. إمكانية تكرار الاعتداء باعتداء مقابل.
هذا معناه أن الثأر مرتبط ارتباطًا حميمًا بالبنية الواقعية لحياة الإنسان في المجتمعات القرابية؛ فالفرد في مجتمعنا لا يتمتع بشخصية فردية متميزة أو كيان شخصي قانوني مستقل، بل يتصرف ويعمل ويُنظر إليه على أنه عضو أو جزء من جماعة معينة، سواء كانت هذه الجماعة قبيلة أو قرية أو منظمة سياسية… إلخ.
فالقاتل حين يقتل شخصًا ما في مجتمعاتنا العربية التقليدية، فإن عمله لا يُعتبر جريمة في نظر المجتمع ككل، بل جريمة موجّهة إلى الوحدة الاجتماعية التي ينتمي إليها القتيل، فلا ينصب الاهتمام أكثر ما يكون على المذنب، وإنما على الضحايا الذين لم يُثأر لهم.
وبالنتيجة، فإنه للعمل على وقف الثأر كما للعمل على وقف الحرب، لا يكفي إقناع الناس أن العنف كريه وخطير ومدمّر، ذلك لأنهم مقتنعون بأنهم يصنعون لأنفسهم واجبًا للثأر منه. إذ إن تضامن الجماعة هنا هو القانون الأعلى، فما دام لا يوجد جهاز ذو سيادة ومستقل كي يحل محل المعتدى عليه ويوقف الثأر، فإن خطر التصاعد اللامتناهي يستمر.
إن الجهود لمعالجة الثأر وتحديده وإيقافه تبقى وقتية وعابرة، بدون نظام قضائي عادل يحتويه من جذوره، وستَمضي سنين طويلة قبل أن يكتشف الناس أنه لا يوجد فارق بين مبدأ العدالة العامة والقضاء المستقل، ومبدأ الثأر التقليدي الخاص. فالمبدأ هو نفسه النافذ في الحالتين: (مبدأ التبادل العنيف بين الجريمة والعقاب)، كما يقول رينيه جيرار.
وهذا المبدأ إما أن يكون عادلًا، وتكون العدالة آنئذ مائلة في عقاب المجرم، وإما أن لا توجد أي عدالة عامة، وهنا يشبه الثأر العام الثأر الخاص. ولكن يوجد فارق ضخم بين الثأرين على المستوى الاجتماعي: الثأر الذي لا ثأر له، أي ثأر القضاء العادل وجهاز السلطة العام الذي يتكفّل بأخذ القصاص العادل من المجرم، فالعملية بذلك تنتهي ويسود الأمن والسلام، وحينها يكون خطر التصعيد العنيف مستبعدًا إلى الأبد.
والثأر اللامتناهي هو الثأر التقليدي الخاص الذي يريد أن يكون انتقامًا، وكل انتقام يستدعي انتقامات جديدة، ومضاعفة الانتقامات هي المغامرة المهلكة التي تهدد وجود وسلام واستقرار المجتمع كله، ولهذا فإن الثأر يشكّل في أي مكان من دول العالم المتحضر موضوع تحريم صارم جدًا.
هكذا، إذا كان الثأر عملية لا نهاية لها كما نعرف بالتجربة الحياتية، فلا يمكن أن نطلب منه احتواء العنف، وفي الحقيقة هو ما يجب احتواؤه. ولا توجد أي وسيلة ناجحة لذلك غير المؤسسة القضائية، أي الدولة والقانون، المتعارف عليها جميع المواطنين الذين يخضعون لسلطتها بقناعتهم.
إن النظام القضائي العادل لا يلغي الثأر بل يعقلنه، فلا فرق بين نظام قضائي عادل ومبدأ الثأر؛ فالإصرار على عقاب المجرم ليس له من معنى آخر غير الأخذ بالقصاص بحق الضحية من المجرم المذنب.
فالسلطة القضائية التي وُكّلت من الجميع بشكل كامل، والتي ليست شيئًا آخر سوى ذاتها، ولا تعود إلى شخص ولا تنحاز إلى جماعة، هي وحدها التي يجب أن تحتكر الثأر احتكارًا مطلقًا، وهي وحدها القادرة على خنق الثأر ولجم شهوة العنف.
فهل عرفنا الآن البؤرة التي تتطلّع منها رؤوس الأفاعي والشرور الاجتماعية، ومنها العنف والثأر والثأر المضاد؟ إنها العدالة الغائبة بسبب غياب الدولة والقانون. ألم يحن الأوان لتفعيل عمل المؤسسات القضائية والأمنية، وأعلى شأن القانون الذي يجب أن يكون سيد الجميع بلا استثناء، وبلا قلب ولا عيون؟
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news