لم أعد حزينًا لأن اليمن يتألم، بل لأن الألم بات حالته الطبيعية، ولأننا اعتدنا مشهد التشظّي كما لو أنه قدرٌ لا يُناقش.
وطنٌ يتفتّت أمام أعين أبنائه، لا بفعل عدوّ واحد، بل بتكاثر الأعداء في داخله، وبعجزنا الجماعي عن إنقاذ اسمه من الضياع.
حزينٌ على وطنٍ لم يُهزم في معركة واحدة، بل أُنهك بالتقسيط، شطرًا شطرًا، وذاكرةً ذاكرة.
وطنٌ يتشظّى بهدوءٍ موجع، وتُقتطع روحه على مرأى من أهله، بينما يتخاصم أبناؤه على ما تبقّى من ظلّه. ولم يعد الانقسام جغرافيًا فحسب، بل صار انقسامًا في المعنى، وفي الانتماء، وفي تعريف الوطن ذاته!
حزينٌ على بلدٍ تعلّم العالم من تاريخه معنى الحضارة، وعلى أرضٍ حملت سبأ وحِمير وقتبان وأوسان ومَعين، وصاغت تاريخًا أقدم بكثير من أمم الأرض.
أحزن لأن هذا التاريخ العريق، بكل ما فيه من حكمة وعمق وكرامة، يُترك اليوم رهينة العبث، ويُقرَّر مصيره بيد حفنة من الجهلة والتافهين، ممن لم يقرأوا التاريخ إلا ليستخرجوا منه ما يخدم مشاريعهم الضيقة، وما يمكن أن يقدّموه لأوليائهم من الإخوة الأعداء، والأصدقاء الكاذبين في الجوار والإقليم.
حزينٌ لأن الوطن الذي حلمنا به ذات يوم، وخرجنا إلى الساحات شهورًا نحلم بواقعٍ أفضل له، وطن الدولة والعدالة والمستقبل، تحوّل إلى ساحة تناحر، يتغذّى فيها الصراع على الخوف، وتُدار فيها الجغرافيا بمنطق الغلبة لا بمنطق الشراكة.
أحزن لأن اسم اليمن لم يعد يجمعنا، بل يُستخدم أحيانًا لتبرير الإقصاء، وأحيانًا أخرى لتكريس الانقسام والاقتتال.
حزني الأعمق ليس على ما خسرناه فقط، بل على ما قد لا نملكه غدًا.
وجعي الأكبر ليس على الماضي وحده، بل على المستقبل الذي يُسحب من تحت أقدامنا.
على مستقبل أولادي: محمد، ومحمد، وملاذ، وخيال، وعلى الأطفال في أعمارهم، الذين جئنا بهم إلى مستقبلٍ مظلم، كظلمة المنازل اليمنية منذ سنوات بلا كهرباء، ليكبروا في وطنٍ بلا ملامح، وبلا أفقٍ واضح.
سنظل نتأمّل معاناتهم اليومية بقهر، حتى نغادر عن كمد.
أيّ حلمٍ يمكن أن ينمو في أرضٍ تتنازعها البنادق، ويُدار فيها الغد بعقلية الغلبة لا بعقلية الحياة؟
حزينٌ على إخوتي المتأملين: يزن، وعبدالوهاب، ونايف، وكارم، والواسعي، وحمدو، والبقية…
جيلٌ أنهكته الخيبات، واعتاد أن يؤجّل أحلامه عامًا بعد عام، حتى صار التأجيل نمط حياته دون أن يدري.
جيلٌ لم يُمنح فرصة أن يعيش وطنًا طبيعيًا، بل طُلب منه أن يتعايش مع الخراب، وأن يتقن فنّ الصبر بدل فنّ البناء… ولا أحد يدري إلى متى!
ما يؤلم أكثر أن ضياع هويتنا لم يأتِ فجأة، بل جاء تدريجيًا، مع كل تنازل عن فكرة الدولة، ومع كل تبريرٍ للعنف، ومع كل صمتٍ طويلٍ عن الظلم.
تشظّت الهوية اليمنية حين استُبدلت المواطنة بالولاءات، وحين صارت الجهة والحزب أهم من الوطن، والطائفة أعلى من الإنسان.
هذا ليس مقال يأس، بل شهادة حزن.
فالحزن، حين يُقال بصدق، قد يكون آخر أشكال المقاومة.
أكتبه لأنني أخاف أن يكبر محمد، ويكبر معه سؤالٌ موجع:
كيف ضاع وطنٌ بهذا الجمال، وبهذا التاريخ، بين أيدي من لم يعرفوا قيمته… وأنت صامت؟
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news