دخل جنوب اليمن مرحلة جديدة من الغموض في الأيام الأولى من ديسمبر، عقب توسع المجلس الانتقالي الجنوبي (STC) وأذرعه العسكرية في محافظة حضرموت الغنية بالنفط، وتمدده مؤخرًا إلى أقصى الشرق في محافظة المهرة. وبينما يرى البعض في هذه التطورات خطوة نحو ترسيخ مشروع سياسي جنوبي، إلا أن الواقع يبقى أكثر تعقيدًا مما يبدو.
قد يكون اليمن بالفعل على أعتاب انقسام فعلي بين الشمال والجنوب، إلا أنه ليس واضحًا ما إذا كان المجلس الانتقالي يمتلك التماسك والشرعية والعمق السياسي الكافي للسيطرة بمعناها الحقيقي على مساحة شاسعة ومتنوعة تمتد عبر ثماني محافظات. فبرغم أن المجلس وأذرعه العسكرية يمسكون بزمام السلطة في جنوب البلاد، إلا أن المشهد لا يزال هشًا، وأي تقييم للوضع يجب أن يأخذ في الاعتبار حجم الهشاشة التي تحيط بهذه اللحظة.
مشروع المجلس الانتقالي الجنوبي
جاء التوسع الشرقي للمجلس الانتقالي بشكل مفاجئ وسريع. ففي حضرموت، التي لطالما عُرفت بخصوصيتها السياسية وإدارتها المستقرة نسبيًا، استغلت القوات الموالية للمجلس ضعف حضور الحكومة المركزية وانقسامات النخب القبلية والمحلية. وعند دخول المهرة، بدا الانتقال أكثر هدوءًا، إذ لم تُسجل مقاومة تُذكر، ولم تظهر مواجهات مرئية، فيما أكدت السلطات المحلية استمرار الحياة بشكل طبيعي. وقد أثارت هذه التطورات مخاوف من تراجع سلطة الحكومة المعترف بها دوليًا، ومن تكريس أنظمة موازية للنفوذ في البلاد.
ومع ذلك، فإن تصوير ما يجري على أنه لحظة حاسمة نحو مشروع جنوبي متماسك أمر مبالغ فيه. فالمجلس الانتقالي يتمتع بنفوذ سياسي وعسكري حقيقي، لكنه غير متوازن عبر المناطق. يستفيد من الفراغ الذي خلّفه انهيار المؤسسات الوطنية، إلا أن سلطته تعتمد في كثير من المحافظات على ترتيبات تفاوضية أكثر من اعتمادها على شرعية شعبية راسخة. ففي شبوة ووادي حضرموت والمهرة، يُنظر إليه غالبًا كسلطة يجب التعايش معها وليس كخيار سياسي مُتفق عليه. يعتمد نموذج حكمه على مزيج من السيطرة الأمنية التي تنفذها تشكيلات غير منظمة، وخطاب رمزي يستحضر تطلعات الجنوبيين التاريخية، وتحالفات محلية براغماتية — وهي صيغة تعمل في سياقات الانهيار، لكنها قد تتصدع في بيئات سياسية تنافسية.
في صميم المشهد يبرز سؤال “من يمثل من؟”. يقدم المجلس الانتقالي نفسه ممثلًا لطموحات الجنوبيين، مستندًا إلى إرث دولة الجنوب السابقة (جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية 1967-1990)، وإلى مظالم تراكمت بعد الوحدة. لكن قاعدته الشعبية تتركز في عدن ولحج والضالع — حيث الهوية الجنوبية الأكثر تجذرًا — بينما يختلف الوضع كلما اتجهنا شرقًا. فحضرموت، بهويتها الخاصة وتقاليدها الثقافية والدينية، اعتادت مقاومة الاندماج في مشاريع جنوبية واسعة. أما المهرة، ذات الروابط القبلية المتماسكة وصلاتها الاجتماعية والثقافية بعُمان، فتنظر بحذر لأي قوة خارجية، سواء كانت حكومية أو انتقالية. وفي المحافظتين، يبدو قبول وجود المجلس مرتبطًا أكثر بانهيار مؤسسات الدولة وتغير أولويات الرياض، وليس بانسجام أيديولوجي معه.
الواقع على الأرض ودور القوى الإقليمية
لا تقلل هذه التعقيدات من أهمية التحولات الجارية. فاليمن أصبح أقرب إلى تشكل مسارين مؤسسيين منفصلين أكثر من أي وقت مضى منذ 2015. يسيطر الحوثيون على الشمال بثقة وتنظيم، بينما تعاني الحكومة الشرعية من انقسام جغرافي وسياسي وتعيش وضعًا هشًا يتركز فقط حول مأرب. في المقابل، يحكم المجلس الانتقالي معظم المحافظات الجنوبية بامتداد جغرافي متصل، إلا أن هذا الامتداد سياسي أكثر منه إداري أو مؤسسي. فهو يفتقر إلى الهياكل الإدارية وأنظمة الإيرادات والشرعية المحلية التي تمنح أي سلطة قدرة على الاستمرار.
يعتمد مستقبل المجلس الانتقالي في تحويل مكاسبه الأخيرة إلى سلطة مستقرة على عاملين أساسيين: التماسك الداخلي، والبيئة الإقليمية المحيطة.
ورغم أن تماسك المجلس الداخلي أفضل من تماسك مجلس القيادة الرئاسي، إلا أنه ليس محصنًا من الصراعات الفصائلية. توجد تباينات بين القيادة السياسية في عدن وقادة الميدان الذين تربطهم ولاءات محلية. وسيحدد نجاح المجلس في إدارة هذه التباينات — خصوصًا في ملفات الإيرادات النفطية والتنسيق الأمني والتعيينات الإدارية — مدى قدرته على ترسيخ نفوذه.
أما البيئة الإقليمية فهي معقدة للغاية. فالقوى الإقليمية ذات تأثير مباشر على المشهد الجنوبي. من المعروف أن الإمارات تشكل داعمًا عسكريًا وسياسيًا للمجلس، لكن أولويات أبوظبي استراتيجية واقتصادية بالدرجة الأولى، وقد لا تعكس رغبة في قيام دولة جنوبية مستقلة بقدر ما تهدف إلى ضمان استقرار الممرات البحرية. السعودية، من جانبها، تجد نفسها بين ضرورة كبح الحوثيين، والحفاظ على نفوذها شرق اليمن، وتجنب صدام مفتوح مع المجلس الانتقالي. أما عُمان فتنظر بقلق بالغ تجاه المهرة، معتبرة التقدم الانتقالي تهديدًا لاستقرار حدودها وشبكاتها الاجتماعية. هذه الحسابات الإقليمية ساهمت في تسهيل تمدد المجلس، وقد تحدّ من استمرارية نفوذه إذا ما تبدلت التحالفات.
وعلى المستوى المحلي، تختلف ردود الفعل تجاه التوسع الانتقالي. فبينما تستقبله بعض المجتمعات كقوة توفر الأمن في بيئة مضطربة، تنظر إليه مجتمعات أخرى — خصوصًا في وادي حضرموت والمهرة — بعين الشك. وغالبًا ما تتكيف المناطق مع القوة التي تستطيع فرض الاستقرار، لكن هذا لا يعني ولاءً سياسيًا طويل الأمد، ما يجعل سلطة المجلس قائمة على الأداء وليس على القبول الشعبي.
مستقبل غامض ومشهد ينذر بالانقسام
يقف اليمن اليوم على حافة مرحلة حساسة. فسهولة توسع المجلس الانتقالي تعكس في جانب منها انضباطه التنظيمي والفراغ الذي أنتجه انهيار الدولة، لكنها تخفي في جانب آخر هشاشته. الجنوب فسيفساء من الهويات والمصالح والذاكرات السياسية، وتوحيدها تحت إطار سياسي واحد مهمة بالغة التعقيد. الخطر الأكبر هو أن ينزلق اليمن نحو انقسام فعلي، لا لأن مشروعًا جنوبيًا واضحًا نجح في فرض نفسه، بل لأن الإطار الوطني برمته فشل في الصمود.
السؤال المحوري في المرحلة المقبلة لا يتعلق بما إذا كان اليمن سينقسم أم لا، بل ما إذا كان أي طرف — بما في ذلك المجلس الانتقالي — قادرًا على إدارة أراضٍ واسعة ومتنوعة دون أن يفجر موجات جديدة من الصراع. فالمجلس يملك اليوم نفوذًا غير مسبوق، لكنه نفوذ مشروط، قابل للتمدّد كما قابل للتراجع، ومقبول في بعض المناطق أكثر مما هو مُحتضَن.
التحولات في الجنوب ما زالت قيد التشكل. وما إذا كانت ستستقر على نظام سياسي جديد أو ستتفتت أمام صراعات المصالح المتعارضة، سيعتمد على تفاعل العوامل المحلية، والحسابات الإقليمية، وقدرة المجلس الانتقالي على تحويل وجوده العسكري إلى حكم شامل ومستقر. الأشهر المقبلة ستكشف ما إذا كنا أمام ولادة واقع جنوبي جديد أم مجرد مرحلة انتقالية تسبق إعادة تشكل المشهد اليمني من جديد.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news