القبلية الجديدة أو العصبوية المتفجرة على أساس جهوي مفرغ من السياسة والخطاب الرشيد يمكن أن تستخدم أدوات العصر الرقمي، وتوظف الكوادر وخطابات الهوية والاستقلال وغيرها من المفردات، لكنها في جذرها تظل قبائلية جهوية ترتبك كلما تم حشرها في مربع السياسة، لذلك تتهرب من الالتزامات والحوارات وتتنصل من الاتفاقات، وتراهن على الحشود والتحرك على الأرض وفرض الأمر الواقع!
سنرى كيف يقدم عيدروس الزبيدي نفسه كزعيم لا ترد كلمته ولا قبول لمناقشة خياراته وقراراته وتعييناته، وهذا التماهي مع سلوك زعيم القبيلة مؤشر على الطبيعة الجهوية الصارخة والمفرغة من أي وعي أو منطق سياسي، ولو من قبيل الدهاء للوصول إلى الهدف المرتجى: الانفصال.
المتوقع وفقاً للمؤشرات أن مشكلة هذا التيار مع المجتمع المحلي في الجنوب نفسه ستكون أعمق بكثير، لأن الجنوب القادم، إذا حاز على الضوء الأخضر دولياً للاستقلال/الانفصال، سيكون دولة مساحة خالية من الأيديولوجيا ومن المعنى السياسي، ولا مؤشرات على استعادة “جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية”. بل سنكون أمام كيان أقرب إلى استنساخ دولة القبلية الجديدة الناهضة في الجنوب، في استلهام لأسوأ ما أنتجه الماضي في شمال اليمن من أنظمة هجينة جمعت بين القبيلة والجيش، وبالطبع الجنوب يشهد منذ 1986 عودة محمومة إلى هوية ما قبل وطنية لا صلة لها ببواكير نظام وفكر ما بعد 1967.
ما يحدث يعد ضريبة فشل متراكم أولاً لدولة الرفاق، وثانياً لدولة الوحدة، لأن الدولة حين تعجز عن أداء وظيفتها تتآكل الثقة بها، وينهار التصور الحديث حولها، وينتج عن الانهيار شكل بدائي لدولة على مقاس الوعي الحمائي الجديد، وعي القبيلة والجهة والجغرافيا بوصفها جغرافيا فقط بلا معنى سياسي حديث.
ولفهم ما يجري ينبغي العودة إلى الجذر النفسي والاجتماعي للأزمة. الدولة اليمنية الموحدة التي نشأت في مطلع التسعينيات لم تنجح في ترسيخ حضورها كمؤسسة محايدة ومتجاوزة للولاءات القبلية والمناطقية والمذهبية، وظلت أقرب إلى غنيمة يتنافس عليها الفرقاء بدلًا من أن تتحول إلى إطار يحتمي به الجميع. فيما أنجزت سنوات الحرب الأخيرة مهمة إسقاط القناع عن هشاشة البنية الوطنية، وكشفت أن المواطن حين يواجه الخطر الوجودي لا يجد ملاذاً في مؤسسات الدولة المتهالكة، فيضطر للعودة غريزياً إلى القبيلة والجغرافيا، وصولاً إلى القرية وعلاقات القرابة والعصبيات التي تعيد بناء تقاليدها، في غياب البدائل المؤسسية الحديثة والعادلة، خصوصاً بعد أن تم تشويه مفهوم الدولة وممارساتها وتقديمها على هيئة كيان فاسد وعاجز ومستولى عليه ومصادَر وغير نافع.
هذا التحول في إعادة استنبات الوعي الجهوي والقبائلي حصاد تراكم سلسلة من الخذلانات المتتالية، ونتيجة عجز الدولة، أو بالأحرى القائمين عليها، الذين لم يتمكنوا من توفير ما توفره الدولة الحديثة لشعبها، فلجأ الناس إلى ما يرون أنه يضمن لهم الحماية البديلة.
وبمعنى آخر أوسع وأشمل، فإن اليمن بكل جهاتها، بشمالها وجنوبها، تعيش حالة فشل منذ انهيار النظام السابق، ولم تتمكن النخب فيها من التوافق على بناء نظام جديد، وأسهمت التدخلات الخارجية والقابلية المحلية للترحيب بالتدخلات في بروز البنى الأهلية والمناطقية لسد الفراغ، وكل يوم كانت الشرعية تفقد الكثير من دلالاتها وهيبتها وقوتها القانونية على الأرض، لأن الشرعية ليست شيكاً قابلاً للصرف طول الوقت، وليست هياكل ومناصب غير فاعلة. وهذا الفشل الجوهري للدولة/الشرعية يفسر سهولة التعبئة الحاصلة في كل الجهات على أسس قبلية ومناطقية وفصائلية، في مقابل صعوبة التعبئة على أسس وطنية جامعة.
وهكذا نرى أن رفع علم الجنوب السابق في حضرموت وغيرها يأتي في هذا السياق النفسي والاجتماعي، لأن العلم برمزيته السياسية يشبه كذلك التميمة الجماعية والسعي لاستعادة الذات بعد عقود من شعور الجنوبيين بالتهميش والإقصاء في ظل دولة الوحدة التي تحولت من وسيلة مفيدة ونافعة إلى غاية مقدسة بدون فائدة إلا لطرف بل لنخبة محدودة في طرف دون الآخر الشريك.
وتبقى الحالة اليمنية فريدة، لأن القبيلة لم تختفِ يوماً من المشهد الاجتماعي حتى في ذروة مشاريع التحديث التي شهدتها البلاد ظلت القبيلة حاضرة، وأحياناً منافسة لمؤسسات الدولة. لكن ما نشهده اليوم يختلف نوعياً، إذ لم تعد القبيلة بنية اجتماعية تقليدية تؤدي وظائف محددة، ويبدو أن القبيلة كما في حالة الجنوب أصبحت المؤسسة القادرة على التعبئة السياسية الجهوية، وهذا التحول يعني أن إعادة بناء الدولة اليمنية إن حدثت يوماً، لن تكون عملية سياسية أو إدارية سهلة، لأنها تتطلب إعادة بناء الثقة بمفهوم الدولة من الصفر، وهذا أمر يستغرق أكثر من جيل ربما.
إجمالاً، إذا لم يتم وضع حد لانسداد الأفق السياسي في اليمن، نحن على أعتاب مرحلة جديدة من الفوضى التي تتحول إلى خيار استراتيجي لدى بعض الأطراف وليس نتيجة.
على المستوى الشخصي، نصيبي من الوحدة اليمنية: أصدقاء لن أخسرهم حتى لو انفلقت الأرض إلى نصفين، وأغانٍ من لحج وعدن وحضرموت تسكن ذاكرتي السمعية قبل الإنترنت.
لا أملك أرضاً في عدن، ولا استثمارات، ولا مصالح. لكن الوحدة في وعيي وحدة ثقافة وصداقات وفن وطرب وإبداع، وهذه أشياء لا تنفصل عنك مهما حدث حين تصير جزءاً من روحك وكيانك.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news