العرب
تشهد السياسة الأميركية تجاه سوريا تحولًا لافتًا يعكس إعادة ترتيب الأولويات الإقليمية في واشنطن، قائمًا على مقاربة أكثر براغماتية وأقل صدامية.
ولا يقتصر هذا التحول على تخفيف حدّة الخطاب، بل يمتد إلى خطوات عملية تجمع بين إبداء ثقة متزايدة بدمشق، وممارسة ضغط ناعم ومتدرّج على تل أبيب لضبط سلوكها العسكري، بما يخدم هدفًا أوسع يتمثل في منع تفجّر صراعات جديدة في المنطقة.
وفي قلب هذا التحول برزت تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب، التي شكّلت أوضح إعلان سياسي عن التوجه الجديد. إذ دعا ترامب إسرائيل صراحة إلى “الحفاظ على حوار قوي وحقيقي مع سوريا”، مطالبًا بألّا يحدث “أي شيء من شأنه أن يتعارض مع تطور سوريا إلى دولة مزدهرة”.
وتمثل هذه الدعوة العلنية خروجًا عن النمط التقليدي للسياسة الأميركية التي طالما منحت إسرائيل هامش حركة واسعًا داخل الساحة السورية، من دون قيود سياسية واضحة.
وتكتسب هذه التصريحات أهمية مضاعفة لأنها تأتي في لحظة إقليمية شديدة الحساسية، حيث تسعى واشنطن إلى خفض منسوب التوتر في أكثر من ساحة. فالإدارة الأميركية، التي باتت أقل استعدادًا للانخراط في نزاعات مفتوحة في الشرق الأوسط، ترى أن استمرار الضربات الإسرائيلية داخل سوريا قد يؤدي إلى سيناريو تصعيدي يصعب ضبطه، ويقوّض جهود التهدئة التي تعمل عليها.
وفي الوقت نفسه، عبّر ترامب عن مستوى غير مسبوق من الرضا عن المسار السوري، إذ قال إن “الولايات المتحدة راضية جدًا عن النتائج التي تحققت، بفضل العمل الجاد والعزيمة”، في إشارة واضحة إلى تقييم إيجابي للأداء السوري في المرحلة الأخيرة.
ويتناقض هذا التوصيف مع سنوات طويلة من الخطاب الأميركي الذي ركّز على عزل دمشق واعتبارها عنصر عدم استقرار دائم، ويعكس في جوهره مراجعة هادئة لسياسة أثبتت محدودية فعاليتها.
وكان الموقف الأكثر دلالة في حديث ترامب إقراره بأن إنهاء العقوبات “القاسية والمؤلمة للغاية” شكّل عاملًا مساعدًا جوهريًا في دعم المسار السوري الجديد. إذ أشار بوضوح إلى أن سوريا وقيادتها وشعبها “قد قدّروا ذلك حقًا”، في اعتراف نادر بتأثير العقوبات السلبي على المجتمعات، وبأهمية رفعها عندما تتحقق أهداف سياسية وأمنية محددة.
ويرى محللون أن هذا الخطاب يعبّر عن انتقال أميركي من منطق الضغط الدائم إلى منطق الحوافز المشروطة.
وضمن هذا الإطار، تبدو “الثقة” الأميركية بدمشق ثقة وظيفية محسوبة، لا تعني تبنيًا كاملًا للموقف السوري بقدر ما تعكس استعدادًا للتعامل مع الدولة السورية بوصفها طرفًا قادرًا على المساهمة في الاستقرار. فالولايات
المتحدة لا تراهن على تحولات جذرية سريعة، لكنها تراهن على سلوك عملي يحد من الفوضى، ويمنع استخدام الأراضي السورية كساحة تصفية حسابات إقليمية.
وتزداد أهمية هذا التحول مع حديث ترامب عن القيادة الجديدة في دمشق، إذ أكد أن الرئيس السوري أحمد الشرع “يعمل بجد لضمان حدوث أمور جيدة”.
ولا يعبر هذا التصريح فقط عن دعم شخصي، بل عن رؤية أميركية ترى في دمشق شريكًا محتملًا في إعادة تشكيل توازنات المنطقة، بدل حصرها في خانة الخصومة الدائمة.
وفي المقابل، يشكّل هذا التوجه رسالة ضغط واضحة على تل أبيب. فالدعوة الأميركية للحوار مع سوريا، والإشادة بسلوك دمشق، تعني عمليًا أن واشنطن لم تعد تنظر بعين الرضى إلى أي تصعيد إسرائيلي غير محسوب داخل الأراضي السورية.
ورغم التزام الولايات المتحدة بأمن إسرائيل، إلا أن الإدارة الأميركية باتت ترى أن الضربات المتكررة قد تحوّلت من أداة ردع إلى عامل تهديد للاستقرار الإقليمي.
لكن هذا الضغط يُمارَس بأسلوب هادئ ومتدرّج، بعيدًا عن المواجهة العلنية. ولا تفرض واشنطن لا تفرض قيودًا صارمة، لكنها ترسم سقفًا سياسيًا جديدًا لحركة إسرائيل، قوامه أن المرحلة الراهنة تتطلب ضبط النفس واحترام المسار الإقليمي الذي تسعى الولايات المتحدة إلى بنائه. وهو ما يجعل تل أبيب أمام معادلة أكثر تعقيدًا، توازن فيها بين اعتبارات الردع التقليدية ومتطلبات التهدئة الأميركية.
ورغم هذا التحول، لا تزال السياسة الأميركية تجاه سوريا تتسم بازدواجية محسوبة. فالعقوبات لم تُلغَ كليًا، والخطاب الرسمي لا يزال حذرًا، لكن الممارسة الفعلية تشير إلى مرونة متزايدة.
وتعكس هذه الازدواجية طبيعة السياسة الأميركية نفسها، التي تجمع بين خطاب صلب للاستهلاك السياسي الداخلي، وسلوك خارجي براغماتي تحكمه المصالح والوقائع.
و تعكس المقاربة الأميركية الحالية محاولة جادة لإعادة رسم المشهد السوري ضمن رؤية أوسع لإدارة التوازنات في الشرق الأوسط. ثقة متنامية بدمشق، يقابلها ضغط محسوب على تل أبيب، في إطار سعي واشنطن إلى تقليل احتمالات التصعيد وبناء مسار استقرار تدريجي.
غير أن نجاح هذا الرهان يبقى مشروطًا بقدرة الأطراف المعنية على استيعاب هذه اللحظة، وتحويل التصريحات الأميركية، مهما بدت قوية، إلى وقائع سياسية وأمنية قابلة للاستمرار في منطقة لا تزال رهينة المفاجآت.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news