بقلم: د.سالم أحمد مثنى البكري
في سوق الأزمات السياسية، يتبارى "كهنة السلطة" الجدد في تسويق الوهم. يرفعون شعارات الوطن دروعاً واقية، ويحولون القضايا الوطنية إلى عملة مزيّفة يشترون بها ذمم البسطاء. لقد أصبح الوطن في خطابهم صنماً مُقدّساً تُذبح على أعتابه الحقوق، وتُسفك تحت رايته كرامة الإنسان.
تتعدد الأصوات وتتشعب المرجعيات: قضية جنوبية هنا، وشرعية هناك، وثورة في مكان آخر. لكن النتيجة مأساوية واحدة: خطاب منمّق يعلو، وواقع مُنهار يزداد انحداراً، وشعب يدفع ثمن هذه المسرحية من لقمة عيشه وكرامته.
هذا المشهد المألوف يستدعي ذاكرة التاريخ، حين كان كهنة المعابد يروّجون للعامة أن الآلهة تغضب إذا قلّت القرابين، وترضى إذا امتلأت الخزائن. وكانت الحقيقة الأبدية: أن القرابين تذهب إلى جيوب الكهنة، وأن الحجر الأصم لا يسمع دعاء المحتاجين.
وجاء النبي يوسف عليه السلام، بكلمته الصادقة ورؤيته الواضحة، وليعيد للقداسة معناها النقي، وللإيمان روحه الطاهرة.ويكشف زيف الكهنة ويبين للناس الحقيقة المغيّبة: أن الإله الذي يروجون له ما هو إلا رمز صنعه البشر، وأن ما يتم نهبه باسم “القداسة” لا علاقة له بالإيمان، بل بمصالح من يتصدرون المشهد.
والسؤال الذي يطرح اليوم: أين نحن من كهنة هذا العصر؟ أولئك الذين يستخدمون الوطن سلعةً، والقضية ستاراً، والثورة مهزلة. يختفون خلف الشعارات البرّاقة ويرقصون على أنغام المصالح العامة، بينما تختفي ثروات البلاد في جيوبهم
الحل ليس في انتظار معجزة، بل إلى:
1. قائد صادق لا يجد في السلطة مغنمًا، بل مسؤولية وامانة.
2. وعي جمعي يدرك أن الأوطان لا تُبنى بالشعارات بل بالإصلاح والمحاسبة.
3. مؤسسات حقيقية لا تخضع للأفراد بل للقانون.
4. إعلام حر يفضح الفساد بدل أن يبرره.
الشعب ليس بحاجة إلى من يتحدث باسمه، بل إلى من يعيد له حقه، من يضع مصلحته فوق مصلحة الجماعات والأحزاب والقبائل والمصالح الخاصة. الشعب بحاجة إلى من يفكّك هالة القداسة الكاذبة التي تُحيط ببعض القيادات، وإلى من يعيد للوطن معناه الحقيقي: بيت للجميع، لا خزينة للكهنة الجدد..
إن خلاصنا لن يأتي من الخارج، بل من قدرتنا على كسر أصنامنا الداخلية، ومن شجاعتنا في مواجهة كهنة السلطة بلغة الحق والمساءلة. الوطن ليس شعاراً نرفعه في المناسبات، وإنما هو قضية عيش نعيشها كل يوم.
فإما أن نكون جميعاً "يوسف" هذا العصر، بإرادتنا ووعينا ومسؤوليتنا، وإما أن نبقى أسرى لخطاب الكهنة الجدد، نقدّس الأصنام التي تذبح أحلامنا وتسرق مستقبلنا.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news