في هذه المادة أناقش أو افكك كلمة أو عبارة كان يرددها الرفيق عبدالفتاح إسماعيل الذي رأس دولة الجنوب مدة من الزمن وكان الرجل الأول في الحزب الاشتراكي الحاكم وهو أبرز مؤسسيه .. كانت هذه الكلمة دائما تدور في خطبه دورانا واسعا حتى انتقلت إلى بقية الرفاق ، لقد كرسها تكريسا في الخطاب السياسي والإعلامي في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية دولة الجنوب السابقة فماهي هذه العبارة أو الكلمة ؟
إنها (ياجماهير شعبنا اليمني ) ، فهي تدور في كل خطبه ومحاضراته وكتاباته وهو أمر قد يبدو اعتياديا وبديهيا، فمن هم المخاطبون ؟
سوف اجادل عبدالفتاح إسماعيل وفق مفاهيمه ومصطلحاته .. أنا لا أطلب منه أن يقول : يا جماهير شعب الجنوب العربي مثلا أو يقول يا شعب الجنوب فقط ، لأن هذا مستحيل ، ولأن الصراع بين هوية الجنوب العربي السياسية وهوية اليمننة السياسية كانت قد انتصرت لصالح اليمننة عشية الاستقلال عندما سُمي الجنوب بجمهورية اليمن الجنوبية الشعبية ، وثم فيما بعد ما سُمي بالخطوة التصحيحية في 22 يونيو 1969م عندما غابت كلمة الجنوب من الاسم ، فأصبح جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية .. أنا أناقشه حسب مفاهيمه التي تأسست وفق التسميتين السابقتين ، فعندما يقول : ياجماهير شعبنا اليمني من كان يخاطب ؟
إن كان يخاطب اليمنيين في الجنوب وفي الشمال ، فإن هذا لايجوز له يخاطب أبناء الجمهورية العربية اليمنية ، وهم أبناء شعب آخر ونظام آخر وحكومة أخرى معترف بها وهي دولة جارة ، ثم لماذا يخاطبهم ؟ وإن كان الخطاب يقتصر على الجنوبيين في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية ، فإنهم حسب مصطلحات فتاح نفسها جزء من الشعب اليمني وليس هم شعب اليمن ، فهناك ثلثان أو أكثر من الشعب اليمني غير مخاطبين بهذا الخطاب ، فلماذا الإصرار على هذا الخطاب العام دون تخصيص؟
كان بإمكانه أن يقول مثلا : ياجماهير شعبنا اليمني في الجنوب أو في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية أو حتى في الشطر الجنوبي من الوطن على حسب التسمية البلاغية أو المجازية لكل من الجنوب والشمال عندما يقولون الشطر الجنوبي ، فدولة كاملة لا يمكن تسمى بشطر ، الشطر هنا بمعنى النصف ، ولا أدري من الذي جاء بهذه التسمية .. فقديما قبل الاستقلال وقبل الثورة كان التقسيم هكدا الجنوب و اليمن يقصدون باليمن الشمال والجنوب الجنوب ، لكن حكاية الشطر الشمالي والشطر الجنوبي ، هذه جاءت فيما بعد ، وهي تسمية سطحية وسياسية ومشبوهة ، لأنه هناك اسم واضح للشمال وهو الجمهورية العربية اليمنية معترف بها العالم كله ، وهناك اسم للجنوب هو جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية معترف به العالم كله ، فلماذا لا نسمي الأشياء باسمائها رغم تحفظنا عن بعضها.
( يا جماهير شعبنا اليمني) كان يخاطب بها فتاح الجنوب ، فلنعتبرها كذلك ، لأنه يذكر في خطبه أنكم قاومتم الاستعمار ، وأن الاستعمار قد احتلكم ، وبأنكم الآن تعيشون في ظل نظام وطني ديمقراطي تقدمي ، كل الكلام يخص به الجنوبيين ، فلماذا لم يحدد هويتهم انطلاقا من اسم بلدهم المستقلة ؟
لماذا هذا التحاشي لاسم الجنوب ، حتى إذا سميناه اليمن الجنوبي أو حتى اليمن الديمقراطي أو كما ذكرنا من قبل ؟ ، كيف يسكت الجنوبيون لمثل هذا الخطاب، فهم شعب مستقل يخاطبهم مع جزء من شعب آخر أو يخاطب شعب آخر إلى جانبهم أو يطلق عليهم الكل وهم جزء هذا طبعا حسب مفاهيمه ، بينما اعتبر الكل جزءا عندما يقول الشطر الشمالي والشطر الجنوبي.
كل هذا في اعتقادنا لترسيخ اليمننة السياسية وحتى لا يكون هناك أي تميز للجنوب او حتى خصوصية سياسية تذكر.
كان الأستاذ عبدالوهاب عبدالباري رحمه الله أستاذنا العزيز يقول : إن أفضل شيء عملته الجبهة القومية أنها جعلت الحضرمي يقول أنا يمني ، كنا نضحك لهذا الكلام مع أن هذه المسألة كانت تدل على فرض اليمننة السياسية بالقوة على الجنوبيين من غير استفتاء على التسمية ، فما انطبق على الحضرمي انطبق على الجنوبي بشكل عام يعني الجبهة القومية هي التي يمننت الجنوب سياسيا ، أما اليمن كونها جغرافيا أو هوية تاريخية قديمة ، فهذا وارد ، ونحن لاننكره ، فاليمن عبارة عن جهة واسعة تقع يمين الكعبة تشمل الجنوب والشمال ، وحتى أجزاء من عمان وأجزاء من السعودية كجهة ، وكهوية جغرافية ، لكن كهوية سياسية ليست واحدة ، وقد بدأت يمننة السياسة في أيام االإمام يحيى عندما سمى مملكته : المملكة المتوكلية اليمنية ، وفي الجنوب عندما سميت جمهورية الجنوب بجمهورية اليمن الجنوبية الشعبية ، فهذه تسميات سياسية وهويات سياسية ، مع أن الهويات السياسية في هذه البلاد الكبيرة الواسعة التي اسمها اليمن كانت هويات مختلفة ومتعددة في الجنوب وفي الشمال.
عندما جاء أبناء الشمال إلى عدن أيام الاستعمار الإنجليزي كان يطلق عليهم أهالي عدن الجبالية ، وكانوا يتحسسون من هذه التسمية مثلما الآن يقول أصحابنا الدحابشة مثلا ، وكانت عندهم عقدة النقص ، فسعوا عندما وصلوا إلى صفوف الثورة أو موقع القرار إلى هذه اليمننة والتسمية للجنوب ، لكن كثيرا من الجنوبيين ساعدوهم على ذلك خاصة مع المد القومي والوطني ، فانتصرت هذه المسألة لكن إلى حين لأنها لم تؤخذ بالاستفتاء ، ولكنها كانت هوى سياسيا مفروضا.
وهناك كثير من المصطلحات بصراحة ليس لها أصل كما ذكرنا ،دمثل : الشطر الشمالي والشطر الجنوبي ، والثورة اليمنية الواحدة والثورة الأم والثورة البنت وإعادة تحقيق الوحدة اليمنية وكثير من المصطلحات السياسية الملغومة التي أصبحت مسلّمة فيمابعد ، أو كلمة الوحدة اليمنية ، أو أنها مصير واحد ومقدس مع أن الوحدة اليمنية لم تكن في الحقيقة أمرا ضروريا ولا مصيريا، وليست مسألة ملحّة ، ولكن وصل بها البعض إلى حد التقديس ، وبالأخير فشلت فشلا ذريعا عندما نحققت وفق هذه الحيثيات التعسفية المودلجة،.
هناك دول انقسمت إلى شمال وجنوب لا أحد يسميها مثلا الشطر الشمالي والشطر الجنوبي ، نحن نسمع عن كوريا الجنوبية ، وكوريا الشمالية ، وعن ألمانيا الشرقية وألمانيا الغربية ، وغير ذلك. ، وهكذا مصطلح الشطر هو اختراع يمني فريد.
عموما نحن نقدر للجبهة القومية قيام الثورة المسلحة ضد الاحتلال الانجليزي وتحقيق الاستقلال إلى جانب قوى سياسية أخرى وكذا توحيد امارات الجنوب وسلطناته ومشيخاته في دولة فتية واحدة ، ولكن يحسب عليها تغيير الهوية السياسية للجنوب ويمننتها وكذا يحسب على التيار المنتصر فيها مسألة التوجه الاشتراكي بصورة متعسفة وكذا الاصرار على الوحدة اليمنية كما ذكرنا. وقد كان الرفيق عبدالفتاح اسماعيل في وسط هذه المعمعة ولعب دورا في كل ذلك .
د عبده يحيى الدباني
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news