لم تكن الثورة اليمنية في شمال الوطن وجنوبه حكرًا على الرجال فقط، بل سطّرت المرأة اليمنية صفحات مشرقة من التضحية والفداء، وسجلت حضورًا نوعيًا وحاسمًا في مختلف مراحل التحرر الوطني، مدفوعة بشعور المعاناة وحتميّة تغيير الواقع المظلم.
ولم يقتصر دورها النضالي على الدعم اللوجستي والمساندة عن بعد، بل التحمت مباشرة في خطوط المعركة، مسطّرة أروع صور البطولة والفداء، وسجل التاريخ الوطني استشهاد العديد منهن في معارك التحرير الوطني.
ومن هؤلاء تبرز الثائرة الفدائية دعرة بنت سعيد ثابت، التي أصبحت رمزًا وطنيًا استثنائيًا جمع الثورة ضد الاستبداد الداخلي، والمقاومة المسلحة ضد الاستعمار الخارجي.
ميلاد بطلة
ولدت دعرة، واسمها الحقيقي مريم، عام 1928 في منطقة شعب الديوان بمديرية ردفان بمحافظة لحج، جنوبي اليمن.
نشأت في بيئة مضطربة وقاسية تحت وطأت الاحتلال البريطاني، فمنذ صغرها شهدت مسلسل العنف الممنهج، من قتل وقمع وإرهاب، طال أبناء قريتها جراء الحملات العسكرية المتوالية لسلطات الاحتلال.
هذه التجربة القاسية لم تكسرها، بل شحذت وعيها، وغذّت فيها روح التمرد ورفض الخضوع ومقاومة الظلم بكل الطرق المشروعة، ورسخت في قلبها قناعة راسخة بأن “الحرية تنتزع لا تُوهب”.
بداية المسيرة الثورية
سجلت المصادر التاريخية بداية ثورية مبكرة لدعرة، بدءًا من مشاركتها في “انتفاضة الحمراء” عام 1940، والتي أظهرت خلالها شجاعة نادرة ومهارة عالية في استخدام السلاح. وعندما علم والدها بشجاعتها واقتنع بحجتها القوية بضرورة المقاومة وقف معها وساندها. ويقال إنه اشترى لها سلاحاً لتواصل طريقها في المقاومة الوطنية.
وبعدها شاركت في انتفاضتي القبائل عام 1956 و1957 ضد الوجود الاستعماري، وأُسقطت خلالها طائرة مروحية تابعة للاحتلال في منطقة الحبيلين. وقد اعتقلت بعد تلك العملية، لكنها تمكنت من الهروب من المعتقل بعدها بفترة قصيرة لتعود مجددًا إلى صفوف المقاومة وتصبح من أبرز رموز الكفاح.
بطلة الجمهورية
مع اندلاع ثورة 26 سبتمبر/أيلول 1962 ضد الحكم الإمامي المستبد شمالًا، كانت المناضلة دعرة، من أوائل أبناء الجنوب الذين لبّوا نداء الواجب الوطني, وانضمت إلى آلاف المتطوّعين الذين هبّوا من مختلف المدن والمناطق الجنوبية للدفاع عن الجمهورية الوليدة.
وفي جبال صنعاء وحجة، سجّلت “دعرة” حضورًا لافتًا واستثنائيًا، وسطّرت ملاحم بطولية خالدة. شاركت في معارك حاسمة بجبهات صرواح وخولان وبني حشيش وصولًا إلى المحابشة، مرتدية زي الرجال وحاملة بندقيتها في الخطوط الأمامية.
وبعد دحر الهجمة الإمامية الارتدادية في محيط صنعاء، انتقلت المقاتلة “دعرة” مع كتيبتها إلى منطقة “المحابشة”، وهناك خاضت أعنف المعارك لمدّة ستة أشهر متوالية.
كانت تقاتل ببسالة وشجاعة استثنائية أثارت دهشة المقاتلين من أبناء الشمال والجنوب، وحازت تقدير الجميع، وظل اسمها يتردد في عموم البلاد كنموذج للمرأة اليمنية المناضلة التي آمنت بوطنها وقضية شعبها. بل إن قصص شجاعتها النادرة كانت محور حديث الجنود والضباط في معسكرات الاحتلال البريطاني آنذاك.
ولاحقًا، أصبحت بطولاتها الاستثنائية أسطورة تتناقلها الأجيال اليمنية بفخر واعتزاز.
بطلة الاستقلال
مع اندلاع ثورة 14 أكتوبر 1963 من جبال ردفان بقيادة الثائر البطل غالب بن راجح لبوزة، عادت المناضلة “دعرة” إلى الجنوب لتشارك في معارك التحرير في سبيل الحرية والاستقلال التي جعلت منها رمزًا وطنيًا خالدًا.
يقول عادل رضا، في كتابه “ثورة الجنوب”: “كانت المناضلة دعرة تقف في الصفوف الأولى جنباً إلى جنب مع الشهيد البطل راجح بن غالب لبوزة، المسؤول عن منطقة ردفان، وأول شهيد يسقط على طريق الحرية والكرامة”.
وأضاف أن “المناضلة البطلة اشتركت في أكثر المعارك التي دارت بين القوات البريطانية، وقوات جيش التحرير”.
واشتهرت بجرأتها في تنفيذ العمليات الفدائية، فقد كانت تزرع الألغام في طريق الدوريات البريطانية، وتتربص بدوريات الاحتلال وتنقض عليهم بالرصاص والقنابل اليدوية، وتشارك في الهجمات المباشرة على المواقع العسكرية.
وخلال فترة قصيرة، تحول اسمها إلى هاجس يؤرّق قوات الاحتلال، حتى أن قيادة الشرق الأوسط البريطانية أعلنت مكافأة قدرها 100 ألف شلن لمن يقبض عليها؛ لأنها “أصبحت في نظرهم أخطر إرهابية”، وفق عادل رضا.
مشاهد بطولية
وثّقت أدبيات الثورة العديد من المواقف البطولية للثائرة دعرة في جبهات القتال المتعدد خلال معركة التحرير.
ففي إحدى الليالي، قادت مجموعة من الفدائيين لتنفيذ هجوم مباغت على مقر القيادة البريطانية بقرية الثمير بردفان، واستمرت المعركة أكثر من ساعتين قتل خلالها العديد من جنود الاحتلال، وانفجرت مخازن ذخيرة وأحرقت مصفحتان.
وأثناء الانسحاب أصيبت دعرة في ساقها، واستمرت في الانسحاب رغم الإصابة، لكنها أصيبت مرّة أخرى فسقطت أرضًا، ثم واصلت وهي جريحة إطلاق النار من خلف صخرة لتحمي انسحاب الفدائيين، وأُسرت بعد أن نفدت ذخيرتها.
نقلت بعد ذلك إلى سجن عدن، وأذاع راديو لندن وعدن أكثر من مرّة نبأ القبض عليها، ونشرت ملصقات داخل المعسكرات تزف هذا النبأ إلى الجنود والضباط الانجليز.
وحاول ضباط المخابرات البريطانية استجوابها لانتزاع معلومات عن جيش التحرير والطريقة التي يتسلح بها، ومستوى تدريبهم على حرب العصابات، والجهة التي تساعدهم إلا أنها التزمت الصمت بإباء وشجاعة.
وبعد أيام عثرت السلطات على خمسة من حراس السجن قتلى فيما زنزانة المناضلة “دعرة” خالية. عادت إلى ردفان، لتستأنف المواجهات المباشرة ضد قوات الاحتلال في عدّة مواقع.
واصلت دعرة القتال طوال أربع سنوات حتى جلاء الاستعمار البريطاني عام 1967، وشهدت ميلاد جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، ورغم الإصابات والجراح، ظلت وفيّة لمبادئ الثورة والوحدة حاملة حلم الدولة اليمنية العادلة والمستقلة.
وفي 25 أغسطس/آب 2002، أغمضت عينيها للمرة الأخيرة بعد أن نقشت اسمها بأحرف من نور في سجلات الخالدين من أبناء اليمن الأحرار. لتسدل الستار على مسيرة وطنية استثنائية، تجلّت فيها تفاصيل الروح اليمنية الأصيلة، ومثّلت رمزًا لوعي وصلابة المرأة اليمنية، وإيمانها الراسخ والمطلق بحقها في الحرية والمساواة والمشاركة الفاعلة في صناعة التحولات الوطنية.
التكريم
توّجت مسيرتها النضالية بعدد من الأوسمة والشهادات التقديرية ومنها:
- وسام ثورة 14 أكتوبر.
- ميدالية مناضلي حرب التحرير.
- وسام جرحى الحرب.
- بعد قيام الوحدة اليمنية 1990، مُنحت رتبة عقيد تقديرًا لنضالها وعطائها وتاريخها الثوري، واستحقت عن جدارة لقب “شرارة ردفان”.
إرث خالد
لم تكن دعرة بنت سعيد ثابت وحدها في معركة التحرر الوطني، فقد سار معها وإلى جانبها مناضلات كثيرات خضن غمار القتال وارتقين شهيدات في جبهات القتال، مؤكدات أن المرأة اليمنية كانت دائمًا شريكًا في التحرير لا شاهدة عليه.
وستظل سيرة دعرة ورفيقاتها المناضلات شاهدًا خالدًا على أن المرأة اليمنية كانت وما تزال شريكة في الثورة، وشاهدة على الوحدة، وحاملة لمشروع الدولة اليمنية الحديثة التي حلم بها اليمنيون وضحى من أجلها الأحرار.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news