وأنا اقرأ في مدرسة التاريخ الجديدة التي ازدهرت في الفكر المعاصر استوقفني السؤال المنهجي النقدي ماذا لو؟ إذ يُعدّ من أكثر الأسئلة السردية في الفكر التاريخي الراهن. يفتح أفق التأمل في الاحتمالات التاريخية والبدائل الممكنة، في مقابل السرد الخطي الذي طالما قدّم التاريخ كحتمية منجزة أو مسارًا واحد الاتجاه فالتاريخ التقليدي، كما تشكّل في المدارس الوضعية أو السياسية الكلاسيكية، كان يميل إلى رؤية الماضي كسلسلة من الأحداث الضرورية التي أنتجت الحاضر كما عرفناه ولا شيء تحت الستار! أي قدر الله وما شاء فعل كما هو حال الوعي القدري العربي الإسلامي الذي كرس الاعتقال بأن سؤال ( لو ؟) يفتح باب الوسواس الذي يستوجب التعويذ لا التفكير. ” فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان.”— رواه مسلم (كتاب القدر، باب في الأمر بالقوة وترك العجز” ورغم أن
إن الأهمية المنهجية لسؤال “ماذا لو؟” لا تكمن في إعادة كتابة الماضي على نحو بديل، بل في تحرير التفكير التاريخي من وهم الضرورة وذهنية القدرية . فالتاريخ ليس ما حدث فحسب، بل أيضًا ما لم يحدث، وما كان يمكن أن يحدث.إنه مجال للإمكانات الضائعة، والقرارات غير المتخذة، والأصوات التي لم تُسمع. ومن هنا، فإن استعادة سؤال “ماذا لو؟” هي في جوهرها دعوة لاستعادة الإنسان في قلب التاريخ — الإنسان بما هو كائن اختياري، حر، هش، ومتورط في زمنٍ لا يُختزل إلى خط مستقيم، بل يتشكل من تفرعات واحتمالات لا نهائية.
وليس لدينا سبيل آخر لمعرفة تاريخنا وأزماته وفهم العلل والأمراض التي فتكت بحياتنا وبحث السبل والممكنات الناجعة لتجاوزها غير البحث والدراسة في التاريخ وممكناته فلا عذر لنا طالما وقد قّدر لنا أن نكون شاهدين على هذه الحقبة الصاخبة بالحروب والعنف والظلم والظلام وبالمآسي والأزمات والإخفاقات , إذ أنه من المهين أن يكون سر أزمة حياتنا والتقييم الدقيق لمصائبنا وأزماتنا وقفاً على أناس لم يولدوا بعد ولا شيء يمكن انتظاره إذ لم نبادر نحن بعمله ولا عذر لنا طالما ونحن موجودون هنا والآن.
واليوم، ونحن نستعيد ذكرى ثورة 14 أكتوبر، وبعد أكثر من نصف قرن من الزمن ، من الطبيعي أن تكون هناك آراء ووجهات نظر متباينة حول ما حدث في ردفان وما صار بعد ذلك على مدى الستة العقود العاصفة؟ فهذا هو التاريخ الذي تم وانقضى ولا يجدي الثأر أو السخرية منه بقدر ما يهمنا نقده والكشف عن جوانبه المختلفة، وحقائقه المتعددة، ونتائجه الملتبسة، والبحث في فرصه وممكناته ونقد أخطاءه . ولسنا في أوله ولا في آخره، بل نحن الآن في خضمه وعلينا التعلم من تاريخنا أن الدولة المدنية الديمقراطية العادلة والمستقرة التي تسودها قواعد التنافس السلمي بين الفاعلين يجب أن تكون هدف وغاية كل ثورة سياسية ممكنة. نعم اشتملت بنية ثورة 14أكتوبر 1963 على عناصر الثورة الأساسية: الجدّة، والتغيير، والحداثة، ولكنها للأسف الشديد عجزت عن إنجاز هدفها الأخير وغايتها القصوى المتمثل في الدولة الوطنية المدنية الديمقراطية المفترضة وهذا هو ما جعلنا نتذكرها الآن بحسرة وحنين والحنين وجع الذاكرة.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news