في ذكرى ثورتنا المجيدة، الذكرى الثانية والستين لثورة الرابع عشر من أكتوبر، لا نقف على أطلال الماضي لنبكي، بل لنستلهم من وهج تلك الشعلة التي أوقدها الشهيد الخالد راجح بن غالب لبوزة من قمم جبال ردفان الشامخة، نارًا ما زالت جذوتها متقدة في صدورنا، وضوءًا ما زال ينير لنا دروب العزة والكرامة. فمن هناك، من تلك القمم التي تعانق السماء كبرياءً وشموخًا، انطلقت الرصاصة الأولى، لم تكن مجرد رصاصة عابرة، بل كانت إعلانًا صريحًا بأن ليل الاستعمار البريطاني البغيض قد آذَنَ بالرحيل، وأن فجر الحرية قادم لا محالة.
لم تكن كلمات السامي البريطاني لتثني عزيمة لبوزة ورفاقه، بل كانت وقودًا أشعل في دواخلهم نار الغضب المقدس. وحينما سُئل عن رده، لم يرسل خطابًا دبلوماسيًا منمقًا، بل أرسل رصاصة مدوية، كانت هي الرد الأبلغ، والرسالة الأوضح: "لا تفاوض مع محتل، ولا حوار إلا بلغة البنادق". كانت تلك الرصاصة بمثابة قصيدة مكتوبة بالدم والنار، خطّت أول حروف ملحمة التحرير، وأعلنت أن زمن الخنوع قد ولّى، وأن شعب الجنوب قد اختار طريقه، طريق المقاومة والتضحية والفداء.
من رحم هذا الموقف الأسطوري، وُلِدَت ثورة أكتوبر، لم تكن مجرد انتفاضة عسكرية، بل كانت ثورة وعي وهوية، زلزلت الأرض تحت أقدام المستعمر، وأثبتت للعالم أن إرادة الشعوب الحرة لا تُقهر. روت دماء الشهداء الطاهرة تراب الوطن، من ردفان إلى كل شبر من أرض الجنوب، فأنبتت حرية واستقلالًا، وأسست لدولة فتية شامخة.
وكأن التاريخ يأبى إلا أن يؤكد على أن ردفان هي مهد الثورات ومنبع الأبطال، ففي الثالث عشر من أكتوبر من عام 2007، وبعد سنوات من الوحدة التي لم تجلب للجنوب إلا التهميش والإقصاء، عادت ردفان لتكتب فصلًا جديدًا من فصول المجد. في منصة الحبيلين، حيث كان أبناء الجنوب يحيون ذكرى ثورتهم سلميًا، سقط "شهداء المنصة" برصاص الغدر، لتتحول تلك الدماء الزكية إلى شرارة انطلاق ثورة الحراك السلمي الجنوبي. لم تكن تلك الرصاصات نهاية للحلم، بل كانت بداية لصحوة كبرى، أعادت للقضية الجنوبية زخمها وقوتها، وأثبتت أن روح أكتوبر لا تزال حية في وجدان كل جنوبي.
لقد برهن سقوط أولئك الشهداء والجرحى أن مسيرة النضال مستمرة، وأن الأجيال تتوارث راية الكفاح، فمن لبوزة ورفاقه إلى شهداء المنصة، هي قافلة من التضحيات لا تتوقف، تسير على درب واحد، هدفها استعادة الكرامة والحق. لقد أثبت الحراك السلمي الجنوبي، الذي انطلق بقوة أكبر بعد تلك الحادثة الأليمة، أن شعب الجنوب قادر على ابتكار أساليبه النضالية، وأن السلمية حينما تكون خيارًا استراتيجيًا، تصبح أقوى من كل أسلحة القمع.
إن ردفان، هذه الأرض التي أنجبت القادة وصنعت الثورات، تظل على مر العصور مدرسة في الوطنية والتضحية. هي القلعة التي تحطمت على أسوارها أطماع الغزاة، وهي الشعلة التي أضاءت للشعوب المقهورة طريق الحرية.
واليوم، ونحن نحيي هذه الذكرى الخالدة، فإننا لا نحتفل بتاريخ مضى، بل نجدد العهد لثورة مستمرة، ثورة لا تموت لأنها تسكن في قلوب الملايين. ومن هذا المنطلق، نتوجه بدعوة صادقة إلى كل أبناء الجنوب الأبي، إلى أحفاد لبوزة ورفاقه، إلى كل من يؤمن بحق هذا الشعب في الحياة الكريمة، إلى الاحتشاد المهيب في محافظتي *حضرموت والضالع* .
ليكن هذا الاحتشاد رسالتكم للعالم، رسالة بأن ثورة 14 أكتوبر ليست مجرد ذكرى عابرة، بل هي نبض حي في وجدان كل جنوبي، وأن أجيالًا جديدة تحمل الراية، وقوافل من الشهداء ما زالت تُقدَّم لتروي شجرة هذه الثورة المباركة على مر الزمن. ليرى القاصي والداني أن شمس أكتوبر التي أشرقت من ردفان، لن تغيب أبدًا، وأنها ستظل تضيء لنا الدرب نحو المستقبل الذي نصبو إليه، مستقبل الحرية والعدالة والكرامة على أرضنا الطاهرة...
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news