رجلٌ كان يعبر أجواء الوطن في دقائق، يقود مقاتلته Su-22M4، يملأ السماء هديراً، ويحمل على كتفيه رتبة عقيد طيار، أحد خريجي الاتحاد السوفيتي.
واليوم… رأيته يعبر الشارع على قدميه، يجر دراجته الهوائية، وكأن الأرض قد ضاقت به. يحملها كما كان يحمل يوماً حلم وطن كامل، لكنه الآن يجر خلفه كومة من الخيبات والخذلان.
في شارع السجن صادفته صدفةً. رجل أثقل الشيب رأسه، وأرهقت الأيام ملامحه، لكن ذاكرتي البصرية لم تخطئه؛ فأنا أرسم الوجوه وما تخفيه أعماق الأرواح. عرفته فوراً… وكانت الصدمة.
الأيام سرقت منه الكثير: هيبته، حضوره، حتى ملبسه. لكنها عجزت أن تنتزع تلك الابتسامة الراسخة فيه، كزهرة تشبثت بجبل غطّاه الثلج.
لم أستطع أن أطيل الحديث معه وسط الزحام. طلبت رقماً للتواصل، فلم يكن لديه… يا للمفارقة! رجلٌ كان يخاطب العمليات المشتركة وسرب الطائرات في التشكيلات الجوية، ويطمئن وطناً بأكمله أن السماء صافية، لا يملك اليوم وسيلة يطمئن بها صديقاً واحداً.
سألته: أين أجدك إن أردت لقاءك؟
ابتسم وقال:
«كل عصر، أجلس عند جدار سور المطار قرب المهبط، هناك تجدني.»
كأنه لم يعد يجلس عند سور المطار فقط، بل عند سور الذاكرة كلها؛ يبكي أطلال وطن، وأطلال إنسان مات بداخله قهرٌ طويل.
حاولت جاهداً أن أخاطبه وكأننا ما زلنا في ساحة الطائرات، وأخفيت ألمي، منطلقاً من صورته المهيبة العالقة في عقلي الباطن. كابتن بلغ حد الاكتفاء… وقيل: «احذر قوة المستغني».
ولعل السبب الأعمق، أنه من اعتاد العلو لا يحب أن يراه الناس في مستوى أدنى.
الكابتن زكي يافعي — عقيد مهندس جوي.
【المكتبة الوثائقية الأميرية ـ الضالع】
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news