مع حلول الذكرى الـ63 لثورة الـ26 من سبتمبر 1962، صعّدت جماعة الحوثي المصنفة عالميًا في قوائم الإرهاب، حملات القمع والاختطافات ضد المدنيين في المناطق الخاضعة لسيطرتها، في محاولة لطمس أي مظاهر احتفالية بالمشروع الجمهوري الذي أسس الدولة اليمنية الحديثة.
وبخلاف السنوات الماضية، بدأت الحوثية حملاتها القمعية مبكرًا هذا العام، وشهدت عدّة محافظات أبرزها صنعاء، وحجة، وذمار، وإب، وعمران، والمحويت، مداهمات واعتقالات طالت عشرات المواطنين الذين رفعوا الأعلام الوطنية أو نشروا تدوينات حول المناسبة على منصات التواصل الاجتماعي.
وكانت داخلية الجماعة قد أصدرت بياناً حذّرت فيه من أي مظاهر احتفال بذكرى ثورة 26 سبتمبر، متوعّدة بمعاقبة كل من يقوم بذلك، قبل أن توسّع حملتها إلى مداهمات واختطافات واسعة طالت صحفيين ومحامين وأكاديميين. معتبرة مظاهر هذا الاحتفاء الذي يحافظ عليه اليمنيون منذ قيام الثورة قبل ستة عقود “خدمة للأعداء وسقوط في مستنقع الخيانة والعمالة”.
يسلط “برّان برس” في هذا التقرير الضوء على هذه الانتهاكات التي زادت حدّتها هذا العام، ويوثّق أبعادها، ويستعرض دلالاتها السياسية والحقوقية، وسياقاتها الأمنية والقانونية في سياق المشهد اليمني المعقد.
ويرصد التقرير تأثير هذه الانتهاكات على أهالي المختطفين، وعلى موقف اليمنيين من الاحتفال بذكرى ثورتهم، ويقيّم دور المجتمع الدولي والأمم المتحدة تجاهها، كما يناقش الخطوات الحكومة المطلوبة لحماية المواطنين.
حملة رعب مبكرة
قال أمين عام منظمة مساواة للحقوق والحريات، نجيب الشغدري، لـ“بران برس”، إن حملة الاختطافات الحوثية ضد المواطنين المتهيئين للاحتفال بذكرى ثورة 26 سبتمبر بدأت منذ نحو أسبوع من موعد هذه الذكرى، مضيفًا أن “هذه الاختطافات الممنهجة لا زالت مستمرة حتى اللحظة”.
الصحفي والناشط الحقوقي عصام بلغيث، أكد هو الآخر أن “حملة القمع هذه السنة جاءت مبكرة جدًا منذ أكثر من شهر”، وقال إن “هناك اختطافات واسعة لمعلمين في إب والبيضاء والمحويت وحتى في حارات صنعاء”. مضيفًا أن الجماعة “أعدت خطة مسبقًا لبث الرعب ومنع أي احتفال”.
وبخلاف السنوات الماضية، رصد "بلغيث"، في حديثه لـ“برّان برس”، اختلافًا حادًا في تعامل الحوثيين مع الشارع هذا العام “برفع حدة التهديد والوعيد للمحتفلين”.
من جانبها، قالت المحامية والحقوقية رغدة المقطري، إنها تابعت الحملة عبر “شبكات الرصد الحقوقية المحلية والدولية والتي توثيق الشهادات المصورة وعبر تقارير منظمات حقوقية ومصادر إعلامية مستقلة، والتي أبلغت عن اعتقالات وعمليات مداهمة استهدفت مواطنين احتفلوا علنًا أو نشروا تسجيلات مصورة عن الاحتفالات”.
وأكدت وجود “حملات اعتقال متكررة تزامنت مع احتفالات سبتمبر، وبلغت ذروتها خلال الأسابيع الأخيرة بواقع مئات الاعتقالات في محافظات عدة خاضعة لسيطرة جماعة الحوثي”.
وأوضحت أن هذه الاعتقالات طالت ناشطين، وصحفيين، وطلابا، ومحامين ومنهم الكاتب أوراس الارياني، والمحامي عبد المجيد صبره، الذي اُختطف مؤخرًا “ولم تكن تهمتهم سوى منشور بصفحاتهم على الفيسبوك”.
جريمة أمنية
الصحفي بلغيث، استغرب ربط جماعة الحوثي هذه المرة “بين الاحتفاء بثورة 26 سبتمبر والمخططات الخارجية، مما يعني أن احتفاء اليمنيين بثورتهم التي أقامت الدولة اليمنية الحديثة عبارة عن مخطط خارجي وفق ما يروجه الحوثيون”.
واعتبر أن تصوير الحوثيين الاحتفاء بذكرى ثورة 26 سبتمبر كجريمة “تطور خطير جدًا”، مشيرًا إلى أن هذا “سيستفز مشاعر اليمنيين، ويؤدي إلى احتقان شعبي كبير”.
جذور كهنوتية وسياسة ترهيب
وعن تفسير هذه الحملات، أوضح "بلغيث"، أنها تأتي من كون الحوثية “امتداد للحكم الإمامي السلالي القائم على العنصرية العرقية التي ثار عليها اليمنيون في 26 سبتمبر. وتندرج ضمن مساعيها لإعادة هذا الحكم الذي أسقطه اليمنيون وأعلنوه نظامًا بائدًا لا يمكنه العودة. موضحًا أن هدفها “بث الرعب والخوف لدى أبناء المجتمع اليمني، ومحاولة تجريم مظاهر الاحتفال وربطها بمعركة الجماعة واستغلالها القضية الفلسطينية العادلة.
وبرأيه فإن اشتداد ضراوة الحملة نابع من إدراك الجماعة الحوثية بعدم وجود حل آخر غير القبضة الأمنية لمنع اليمنيين من الاحتفال بثورتهم، فكلما اشتدت ضراوة القمع يعنى أن هناك فقدان للسيطرة على الشارع اليمني. معتبرًا هذا “استفزاز للوعي الجمعي اليمني المجمع على أحقيتهم في الاعتزاز بثورتهم وثورة آبائهم وأجدادهم.
واتفقت الحقوقية المقطري، بأن هذه الحملة “تندرج في سياق سياسة الترهيب الرامية لتقويض أي تعبير عن هوية معارضة للسردية التي تتبناها الجماعة”. وأضاف: جميعنا يعلم أن احتفالات 26 سبتمبر رمز وطني يعيد إحياء ذاكرة سيادية ودولة مدنية وهم يريدون قمع الرموز الوطنية واستهداف المحتفلين.
ومع تصاعد التوترات الإقليمية، قالت إن الجماعة تلجأ إلى “سياسات اعتقال استباقية لقطع أي بوادر احتجاج محلي، وهذا ما يفسر شدة الإجراءات عند تزايد المخاوف الأمنية والسياسية داخل القيادات”.
وتحدثت "المقطري"، عن “زيادة جرائم الاعتقال وتعقيدها منذ 2024 و2025، حيث رصدت موجات الاعتقالات التي طالت حتى موظفي الأمم المتحدة والعاملين في الإغاثة”. معتبرة هذا دليل على “تحول من اعتقالات مختارة إلى حملات منهجية أوسع نطاقًا، وهو ما يبرز ضراوة الحملات هذا العام”.
خوف وطبيعة استبدادية
الحقوقي "الشغدري"، اعتبر هذه الممارسات المتكررة سنويًا، والتي وصفها بـ“الإرهابية”، تأكيد على “خوف الجماعة الحوثية من أي مظاهر وطنية تجسد قيم الحرية والجمهورية”.
وفي الوقت ذاته قال إنها “تعكس طبيعة الجماعة الاستبدادية، وإمعانها في قمع الأصوات الشعبية ومنع المواطنين من التعبير عن ارتباطهم بأعظم ثورة في تاريخهم المعاصر”.
كما “تكشف بوضوح للعالم الوجه الحقيقي لمشروع الجماعة القائم على مصادرة حق الشعب في الاحتفاء بتاريخه الوطني ومكتسباته الجمهورية”، وفق الشغدري.
سياقات حقوقية وأمنية
وفيما يتعلق بسياقات هذه الانتهاكات، ترى المحامية "المقطري"، أنها تأتي في سياقين متداخلين. الأول: قانوني حقوقي، كون الاعتقال انتهاكًا لحقوق الأساسية المحمية في الدستور اليمنى والقوانين المحلية، وكذلك في قانون حقوق الإنسان بموجب العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية (الحق في حرية التعبير والتجمع وعدم الاحتجاز التعسفي)، وتندرج في نمط الاحتجاز التعسفي والاختفاء القسري.
والسياق الثاني: سياسي أمني، حيث تستخدمه الحوثية كإجراء لإحكام السيطرة المحلية والردع السياسي خلال مواسم رمزية مثل ذكرى 26 سبتمبر أو أثناء توتر إقليمي خاصة حينما ترى مثل هذه الفعاليات كتهديد للهيمنة السردية السياسية للجماعة.
آثار قاسية
وبشأن الآثار المجتمعية، قال الحقوقي "الشغدري"، إن “هذه الحملات القمعية الممنهجة تشكل في مجملها انتهاكاً صارخاً للحقوق الأساسية، وفي مقدمتها الحق في التعبير والاحتفاء بالمناسبات الوطنية، ما يبرز الطبيعة الاستبدادية لمشروع الجماعة القائم على قمع الإرادة الشعبية ومصادرة الذاكرة الوطنية”.
وأضاف أنها “تترك آثاراً نفسية قاسية على الأهالي، إذ تبث الخوف والقلق في أوساط المدنيين، وتهدد السلم الاجتماعي، وتضاعف معاناة الأسر نفسياً ومادياً جراء اختطاف وتعذيب ذويهم واخفائهم قسراً في غالب الأوقات”.
معاناة وعوائق
من جانبها أوضحت "رغدة المقطري"، أن هذه الانتهاكات تسبب “معاناة قانونية ونفسية لأهالي الضحايا تتمثل في نقص المعلومات عن مكان الاحتجاز، ومنع الزيارات، وغياب توكيلات قانونية، وهذا يرقى إلى حالة اختفاء قسري، ويعرض الأهالي لمعاناة نفسية ووضع اقتصادي هش (فقدان معيل، تكاليف البحث والدعاوى).
وإلى جانب العائق أمام تمكين العدالة، قالت إن “التضييق من التواصل مع محامين مستقلين ومنظمات حقوقية يعيق إجراءات التوثيق والمساءلة والإفلات من العقاب”.
وبالنسبة لأثرها على الموقف، قالت إن “سياسات الترهيب تؤثر على المشهد العام. تخفت الاحتفالات العلنية وتنتقل إلى فضاءات خجولة أو إلكترونية محدودة، لكن من ناحية أخرى الاحتفاء بالذكرى يتحول أحيانًا إلى تعبير مقاوم ما يجعل محاولة القمع ذات أثر مرحلي لكن لا تطفئ الجذوة الوطنية”.
الصحفي "بلغيث"، اتفق بتأثير هذه الحملة، لكنها، برأيه، “لن تحد من احتفاء اليمنيين بثورتهم”، لافتًا إلى احتفالات السنوات الماضية: “رغم كل المحاذير والتحذيرات إلا أن اليمنيين احتفلوا في الشوارع، ورفعوا الأعلام الوطنية في منازلهم. معتقدًا أن “اليمنيين لن يوقفوا هذه الاحتفالات وسيعبرون عن فرحتهم بطرق جديدة مبتكرة ومميزة”.
وقال: الرسائل التي أوصلها الشعب اليمني في السنوات الماضية كانت واضحة جدًا رغم القمع، واعتقد أن الرسالة هذا العام ستكون أقوى، وستعرف جماعة الحوثي أنها لن تستطيع كسر اليمنيين”.
دور دولي وأممي سلبي
عن تقييمه لموقف المجتمع الدولي والأمم المتحدة إزاء هذه الانتهاكات، قال "بلغيث"، إنه دور “سلبي جدًا”، وخاصة مكتب المبعوث الأممي، الذي “كأنه يتماهى مع موقف جماعة الحوثي”. وأضاف: “لا يوجد إدانة صريحة وواضحة من المكتب حتى عند اختطاف موظفيه، وهذا الدور السلبي الذي تعودناه منه”.
كذلك، الحقوقية "المقطري"، قالت إن ردود الفعل الدولية “اقتصرت على بيانات وإدانات دون آليات تنفيذية قوية تقود إلى إفراجات فورية أو مساءلة جنائية ذات أثر رادع”. مشددة على ضرورة “التمييز بين تصريحات ومطالبات دبلوماسية مهمة، لكنها وحدها غير كافية، وإجراءات موازية (عقوبات مستهدفة، حجب شرعية، شروط إنسانية على دعم أو مسارات محاسبة في آليات الأمم المتحدة) قد تحدث ضغطًا حقيقيًا إن جرى تنسيقها عليها.
أدوات حماية
وعن الخطوات الحكومية اللازمة لدعم المواطنين في مناطق سيطرة الحوثيين والضغط للإفراج عنهم، شددت المحامية "المقطري"، على ضرورة أن تتبع الحكومة “مزيجًا من أدوات الحماية الدبلوماسية والقانونية والإنسانية”.
وتشمل هذه الأدوات: “إنشاء فريق قانوني، وجمع أدلة سوء (شهادات، صور، تسجيلات، قوائم أسماء) لتقديم ملفات إلى مجلس حقوق الإنسان، مجلس الأمن، والمحكمة الجنائية الدولية إن ارتقت المؤشرات إلى جرائم ضد الإنسانية. بالإضافة إلى “تكثيف العمل مع البعثات الدبلوماسية والشركاء الإقليميين والدوليين لفرض شروط على أي تواصل أو تسهيلات تمنح للحوثيين مقابل الإفراج عن المعتقلين”.
يضاف إلى ذلك، “مناصرة إعلامية وقانونية مشتركة بدعم المنظمات الحقوقية المحلية والدولية لتوسيع نطاق التقارير والضغط الإعلامي القانوني”. إلى جانب “فتح قنوات رسمية لتقديم دعم قانوني ونفسي ومادي لأهالي المختطفين، وتسهيل وصول المعلومات عن ذويهم عبر منصات المتاحة”. وكذا “إحالة ملفات الانتهاكات إلى القضاء وكذلك لهيئات الأمم المتحدة المعنية وطلب تحقيقات دولية مستقلة”.
دعوة لاستعادة صنعاء
في إطار حديثه عن التصعيد الحوثي والحلول الناجعة، قال "بلغيث"، إن استمرار بقاء هذه المناطق تحت سلطة جماعة الحوثي فإن “الخطر يهدد مستقبلنا وثورتنا ومستقبل أبنائنا”. داعيًا الحكومة لسرعة تحرير هذه المناطق.
وقال: “المعركة أصبحت واضحة بين إمامة وجمهورية. أعلن الحوثيون بصراحة موقفهم من ثورة سبتمبر في السنوات الأخيرة، ونحن يجب أن نعلنها بوضوح: نريد إعلان تحرير المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثي وفورًا من أجل الإفراج عن المختطفين وإنقاذ أكثر من 15 مليون مواطن جميعهم سجناء في تلك المناطق.
رسالة للمواطنين
في رسالتها لضحايا الانتهاكات الحوثية، دعت المحامية والحقوقية رغدة "المقطري"، لأن “يحافظوا على سلامتهم الشخصية، ويوازنوا بين تعبيرهم المدني واعتبارات السلامة”.
وأضافت: “لا تتوقفوا عن توثيق ورصد هذه الانتهاكات (صور، أسماء، شهود) وحفظها في أماكن آمنة، بالإضافة إلى التواصل مع منظمات حقوقية موثوقة، ومع محامين لتوثيق القضايا بشكل صحيح؛ لأن التوثيق المبكر مهم للحماية القانونية المستقبلية ومهم في العدالة الانتقالية”.
وأما الصحفي "بلغيث"، فخاطب الجميع قائلًا: احتفلوا، وعبروا عن ثورتكم. لا تخضعوا لهذه الجماعة المبتزة. 26 سبتمبر هي ثورة الأجيال. ثورة الأمة التي يجب التمسك بها، وأن يرفع العلم الوطني في كل منزل، وأن تكون مظاهر الاحتفال في الشوارع والساحات والسوشيال ميديا واضحة وجريئة حتى تفهم الحوثية أنه الشعب لا يُقهر.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news