في مشهد استثنائي لم تشهده أي مدينة يمنية منذ اجتياح جماعة الحوثي المصنفة دوليًا في قوائم الإرهاب للعاصمة صنعاء أواخر العام 2014م، عاشت مدينة مأرب (شمال شرقي اليمن) 36 ساعة من الاحتفالات المتواصلة، بالعيد الـ63 لثورة 26 سبتمبر المجيدة.
36 ساعة من الفرح الوطني المفعم بروح سبتمبر المجيدة، تحولت خلالها المدينة التي ظلت لسنوات درع الجمهورية، وملاذ أحرارها، إلى ساحة مفتوحة لأكبر حراك شعبي احتفالي منذ عقود، حيث امتلأت الشوارع بالرايات.
مشاهد شهدتها المدينة، بعد أن غسلت شوارعها بألوان سبتمبر، وتوشحت أعلام الجمهورية، وأشعلت قناديلها لتقول إنها ما تزال تحفظ سر الثورة وتوارثت وصاياها. لترسم لوحات سبتمبرية فريدة، تجلت فيها تفاصيل الوعي من خلال أصوات الناس وهتافاتهم وأهازيجهم، وأعينهم التي تبصر بوهج سبتمبر، وقلوبهم التي لم تنس كم كان الظلام طويلا قبل شروق السادس والعشرين.
في الساحات والأحياء وعلى أسطح المؤسسات والمنازل، ترفرف الأعلام الوطنية وتتمايل مع نسمات الريح، كأنها تعيد رسم خارطة اليمن من جديد، خارطة لا مكان فيها لظلام الإمامة ولا لرايات السلالة. الأطفال الذين يلوحون بالأعلام يصافحون المقاتلين الذين يحرسون المدينة، في مشهد واحد يوحد الأجيال تحت راية سبتمبر.
في مأرب الجمهورية لم يكن الاحتفاء بـ26 سبتمبر مجرد مناسبة، إنه موقف ورسالة مفادها أن الثورة لا تزال حية وأن الجمهوريين هنا لا يزالون على العهد، وأن سبتمبر معركة تُخاض كل يوم، وشعلة تتحدى رياح الكهنوت، ومدينة بأكملها تتحول إلى نشيد جمهوري حيّ.
صباح الكشافة
انطلقت فعاليات اليوم الأول في 25 سبتمبر بعروض كشفية مدرسية، شارك فيها مئات الطلاب من مدارس المدينة بزيهم الكشفي المهيب والموسيقى العسكرية التي عزفت من خلفهم في مشهد أعاد للأذهان طوابير النظام والانضباط والتربية الوطنية التي غرستها الجمهورية في الأجيال منذ فجرها الأول.
شاهد أيضًا | تقرير خاص | مأرب ووهج سبتمبر.. هوية تتجدد في وجه الكهنوت
على الأرصفة، اصطف المواطنون يصفقون ويهتفون، فيما كانت الخطى الصغيرة تمشي بثقة، مرددة قسم الولاء لسبتمبر ولليمن الكبير، لم تكن مجرد عروض مدرسية، بل مشاهد تؤكد أن وعي الثورة يغرس من الطفولة، وأن المستقبل لا يزال مشبعا باليقين الجمهوري.
وهج الشعلة
مع غروب الشمس تجمع المواطنون في ساحة المدينة بانتظار لحظة إيقاد الشعلة، لحظة رمزية لكنها اختزلت تاريخًا من التضحيات وذاكرة وطنية عظيمة.
عند إيقاد الشعلة، انفجرت الساحة بالهتافات، ورفعت الأعلام إلى عنان السماء وتعانقت فيها الحناجر "بالروح بالدم نفديك يا يمن"، لتنطلق بعد ذلك فقرات خطابية وفنية، جسدت وجع الماضي، وكفاح الأجداد، وروح الثورة المشتعلة في القلوب.
وخلال فعالية الإيقاد، قدّم ألف وستمائة شاباً عرضاً كشفياً وشبابياً، رفعوا خلاله العلم الوطني وصور رئيس مجلس القيادة الرئاسي رشاد العليمي، وأهداف ثورة سبتمبر العظيمة، إضافة إلى رمزية مشاعل النور التي جسدت معركة الثورة ضد الجهل والظلام الذي فرضه حكم الإمامة.
عروض عسكرية
في صباح السادس والعشرين، كانت مأرب على موعد مع عرض عسكري رمزي، شاركت فيه وحدات من الجيش الوطني والأمن، والطيران المسير، واستعراض للمعدات والآليات العسكرية، تقدمتها خطى الجنود بثبات واعتزاز.
لم يكن عرضًا للبهرجة، بل تأكيد على أن الجيش للجمهورية، وأن الدولة حاضرة، وأن الدستور لا يزال حيا، وأن البنادق لا تزال تحمل عهد الأحرار بحماية اليمن من أي محاولة للعودة إلى الوراء.
موكب السيارات
مع بدء مغيب الشمس، انطلقت من جولة صرواح وحتى ميدان شعلان في شارع الأربعين، أكبر مسيرة سيارات تشهدها المدينة، منذ بدء الحرب، مئات السيارات مزينة بالأعلام، وصور رموز سبتمبر، وأناشيد وأغاني وطنية تصدح في الميكروفونات، وأصوات المكبرات تهز المدينة.
الأهالي خرجوا من بيوتهم يلوحون بالأعلام، الأطفال رسموا الجمهورية على وجوههم، والكبار كانوا يرددون شعارات الثورة بكل فخر، في مشهد عظيم توجته المسيرة الشعبية، كأجمل تعبير عن الفرح الجماعي والانتماء الوطني الصلب خاصة، في وقت لا تزال فيه العاصمة صنعاء تحت سيطرة جماعة تعادي الثورة وتمنع الاحتفال بها.
لوحات جمهورية
مع حلول المساء، تحولت الدوارات والميادين إلى ساحات فرح شعبي كبير، رقصات البرع كانت الأبرز، تتقاطع معها رقصات لحجية وحضرمية وصنعانية، ومن كل فنون اليمن الشعبي التي اجتمعت رغم الجراح في صورة واحدة.
هنا اختلط الرقص وروح المقاومة والفرح بالتاريخ، في مشهد أذهل حتى من اعتادوا على رؤية مأرب كمجرد مدينة صامدة، فإذا بها الآن مدينة فرحة تحتفل وتمضي وتحيا.
ليلة المهرجان
اختتمت الاحتفالات بمهرجان فني وخطابي حاشد، أقيم في ساحة عامة، تحولت إلى مسرح جمهوري مفتوح تنوعت فيه الفقرات من أناشيد وطنية جديدة، وأغان خالدة إلى مشاهد مسرحية ساخرة، تجسد فظائع الإمامة وأحلام اليمن الجمهوري.
الخطابات التي ألقاها مثقفون وناشطون وشخصيات عامة، حملت رسالة واضحة مفادها أن "سبتمبر ليس مجرد مناسبة سنوية بل معركة وجود ومعيار انتماء وموقف وطني دائم".
نبض سبتمبر
خلال 36 ساعة سبتمبرية خالصة، لم تكن مأرب تحتفل فحسب، بل كانت ترسل الرسائل الواضحة للجميع، بأن شعلة الحرية ما زالت مشتعلة في قلوب اليمنيين، وأن مشروع سبتمبر باق ما بقي الإيمان بالجمهورية.
من هذه المدينة التي قاومت السقوط، وحمت الشرعية الدستورية، اجتمع الناس من كل أصقاع الجمهورية ليثبتوا أن الذاكرة الوطنية لم تنتزع، وأن ما فقد في صنعاء لن يفقد هنا، وأن الشعوب التي تحتفل بثوراتها لا تهزم.
فما حصل، كان تعبيرا صادقا عن حالة الوعي الجمهوري المتجذر في وجدان اليمنيين، في الوقت الذي لا تزال فيه العاصمة صنعاء تحت سيطرة جماعة مصنفة إرهابية تناهض الثورة وتعتقل من يحتفل بها.
هكذا أكدت مأرب مجددا أنها ليست فقط خط الدفاع الأول عن الجمهورية، بل قلبها النابض ومحور الوعي اليمني الصلب. وقال اليمنيون بصوت واحد "لن نعود لقد دفعنا دمًا لنصل إلى هنا ولن نغادر الطريق.. فسبتمبر ليس مجرد تاريخ في التقويم، بل نبض حي في قلب كل يمني وصرخة حرية في وجه كل مشروع استعباد، ولن تنطفئ ما دام في اليمن حر واحد يهتف، الجمهورية فينا والسبتمبريون لا يهزمون".
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news