بينما تحل الذكرى الثالثة والستون لثورة 26 سبتمبر 1962، التي أطاحت بالحكم الإمامي وأسست للجمهورية في اليمن، يجد اليمنيون أنفسهم في مواجهة مفتوحة مع مليشيا الحوثي، التي تسعى لإعادة إنتاج مشروع الإمامة بأدوات قمعية وخطاب دعائي ممنهج، في محاولة لإلغاء الهوية الوطنية الجمهورية.
وفي مشهد يعكس عمق الارتباك داخل الجماعة، صعّدت مليشيا الحوثي من مظاهر الاحتفال بذكرى انقلابها في 21 سبتمبر داخل العاصمة صنعاء ومناطق سيطرتها، بالتزامن مع فرضها إجراءات أمنية صارمة لمنع أي فعالية أو احتفاء شعبي بذكرى ثورة سبتمبر، التي تمثل محطة تاريخية مفصلية في ذاكرة اليمنيين.
محاولة إعادة تشكيل التاريخ
تتعامل مليشيا الحوثي مع ثورة 26 سبتمبر كعدو رمزي يهدد مشروعها العقائدي، وتسعى عبر مختلف الوسائل إلى إعادة كتابة التاريخ بما يخدم رؤيتها السياسية والمذهبية. فالمواجهة لم تعد سياسية فقط، بل باتت معركة على الوعي والهوية، تسعى فيها الجماعة لفرض سردية جديدة تقدم انقلاب 21 سبتمبر باعتباره “فتحًا وطنيًا”، وتقلل من شأن الثورة التي أسست للجمهورية اليمنية.
وفي هذا الإطار، عملت المليشيا منذ مطلع الشهر الجاري على تحويل صنعاء إلى ساحة مركزية لاحتفالاتها، رافعة صور قادتها ولافتات ضخمة، بينما جندت موارد الدولة لتمويل استعراضات عسكرية وحملات إعلامية واسعة. وعلى النقيض، فرضت طوقًا أمنيًا لمنع رفع علم الجمهورية أو ترديد شعارات سبتمبرية.
شهادات محلية أكدت أن عشرات من الطلاب والناشطين تعرضوا للاعتقال لمجرد تعبيرهم عن التمسك بقيم الثورة، في وقت يجبر فيه المواطنون على حضور فعاليات الانقلاب تحت التهديد والملاحقة.
تغييب الثورة من المناهج والوعي
ضمن سياستها لفرض واقع بديل، أجرت مليشيا الحوثي تعديلات جذرية على المناهج التعليمية، ألغت فيها كل ما يمت بصلة لثورة سبتمبر ورموزها، واستبدلتها بمواد تمجّد الحكم الإمامي وتروّج لمفاهيم “الولاية” المستوردة من الفكر الطائفي الإيراني.
وتحولت المدارس، بحسب تقارير إعلامية وحقوقية، إلى منابر لنشر أفكار الجماعة، حيث يُجبر الطلبة على حفظ نصوص من خطب وملازم قادة الحوثي، وتُصادر أي مواد تعزز الهوية الجمهورية. ويعد مراقبون هذا التوجه من أخطر أدوات الحرب الناعمة التي تمارسها الجماعة لتفريغ الأجيال من وعيها الوطني.
مقاومة مدنية صامتة
رغم القمع والملاحقة، يواصل اليمنيون التمسك بإرث ثورة سبتمبر كأصل وطني لا يمكن شطبه. يقول أحد سكان صنعاء: “الاحتفال بالثورة تحول إلى تهمة، لكننا نحييها في بيوتنا، ونروي حكايتها لأطفالنا”.
ويؤكد ناشط جامعي أن الإنفاق الضخم على احتفالات الانقلاب يتم في وقت يعيش فيه المواطنون فقرًا مدقعًا، مضيفًا: “يريدون فرض واقع مقلوب، لكن لا يمكن محو ذاكرة وطنية متجذرة منذ أكثر من ستة عقود”.
ومن الشارع، تتوالى الأصوات التي تؤكد أن ثورة 26 سبتمبر لا تزال نابضة في وجدان الناس. محمد، وهو تاجر من صنعاء، يقول إنهم وإن حُرموا من التظاهر علنًا، إلا أنهم يتمسكون بإحياء المناسبة داخل منازلهم. بينما تقول الطالبة فاطمة إن كل أساليب الترهيب لم تنجح في إقناع الشباب بقبول الانقلاب كواقع مشروع.
ويختصر سائق الأجرة علي المشهد بقوله: “كل سنة يمنعوننا من رفع علم الجمهورية، لكنهم لن يمنعوا حب سبتمبر من قلوبنا”.
احتكار الرواية التاريخية
المعركة اليوم، كما يراها مراقبون، تتجاوز الجانب السياسي لتصل إلى جوهر الهوية الوطنية. فالحوثيون يسعون لاحتكار الرواية التاريخية وتزييف الوعي الجمعي، بينما يصر اليمنيون على أن ثورة 26 سبتمبر هي القاعدة الصلبة التي قامت عليها الدولة اليمنية الحديثة.
وتؤكد تقارير أن أدوات الجماعة لطمس سبتمبر لم تقتصر على التعليم، بل امتدت إلى الإعلام، والثقافة، والمجال العام، حيث يُقدَّم رموز الإمامة بهالة من القداسة، فيما يتم تشويه وتهميش رموز الثورة والجمهورية.
ورغم محاولات التزييف، يرى كثيرون أن هذه الحرب على التاريخ تعكس في جوهرها فشل المشروع الحوثي في ترسيخ شرعية بديلة، وخوفه المزمن من رمزية سبتمبر، التي ما زالت قادرة على استنهاض وجدان اليمنيين في مواجهة مشروع يعيدهم عقودًا إلى الوراء.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news