صراع المناصب .. دولة تُنهب قبل أن تُدفن
قبل 26 دقيقة
لم يعد اليمنيون بحاجة إلى أدلة جديدة ليدركوا أن أطراف السلطة هم أول من يدفع بالدولة نحو الهاوية. فبينما تنهار مؤسسات البلاد وتتصاعد أوجاع الناس، ينشغل المسؤولون بصراع محموم على المناصب والتعيينات، وكأن الوطن مجرد غنيمة سائغة، ينشغلون بمعركة لا تشبه معارك الشعوب الحرة، بل تشبه سباقًا على تقسيم تركة متحللة.
الخلافات حول قرارات التعيين العشوائية كشفت أن ما يجري ليس صراع رؤى ولا جدلاً سياسيًا، وطنيًا، ولا خلافًا على مستقبل الدولة بل عملية تقاسم فاضحة للسلطة والامتيازات، وكأن الدولة جثة ممددة على الطاولة، يتسابق الجميع على نهشها قبل أن تُدفن،
و عملية نهب علني وتقاسم نفوذ على أنقاض وطن يحتضر، فيما لا أحد يمدّ يده لإنقاذه أو حتى دفنه بكرامة.
هذه التعيينات وما رافقها من سجالات كشفت عن عمق الأزمة.. فلا حديث عن نظام، ولا عن قانون، ولا عن مؤسسات دولة تُبنى على أسس سليمة. فما يجري ليس له علاقة باستعادة الدولة في صنعاء، ولا بترتيب الوضع في المحافظات المحررة، ولا حتى بتجسيد فكرة الدولة الحديثة. بل إن هذه التشكيلة، بكل تركيبتها وممارساتها، لن تقود الشعب إلى أي دولة حقيقية، حتى لو مُدّ لها الزمن ألف عام.
المؤسف أن كل طرف يغلّف أطماعه بشعارات سياسية .. هذا يرفع لافتة الدفاع عن جهة، وذاك يلوّح بجهة، وآخرى يتحدث عن استعادة الدولة من الميليشيات. لكن ما يجري في الخفاء هو شيء مختلف تمامًا؛ إنه سباق محموم للحصول على أكبر قدر من النفوذ والمال والامتيازات. الكلمات الكبيرة هنا مجرد غطاء لصفقات صغيرة، والحديث عن الوطنية ليس سوى ستار لتبرير سلوكيات شخصية.
المشهد أشبه ما يكون بعملية تقاسم تركة. الدولة، بكل ما تمثله من أمل ومستقبل، تُعامل كما لو كانت جثمانًا ملقى، يتسابق "الورثة" على اقتطاع حصصهم منه قبل أن يُوارى الثرى. لا أحد يفكر في إحياء المريض أو إنقاذ ما يمكن إنقاذه، بل كل ما يهم هو الحصول على نصيب من الجثة قبل فوات الأوان.
لكن الغرابة لا تكمن في هذا الصراع وحده؛ فالأدهى أنّ الشارع نفسه منقسم بين مشجع لهذا وموالٍ لذاك، وكأنّما فقد القدرة على التمييز بين الصراع من أجل الوطن والصراع من أجل الغنيمة. هنا تتجلى المأساة الحقيقية: أنّ الناس الذين كان يُفترض أن يكونوا القوة الرادعة لهذه الممارسات أصبحوا جزءًا من لعبة التطبيل، يُستدرجون بالعاطفة والشعارات، بينما تُدار خلف الكواليس حسابات ضيقة لا علاقة لها بمستقبلهم.
والسؤال هنا: كيف يمكن لشعب أن يحلم ببناء دولة بينما يقف منقسمًا خلف متصارعين لا يقدّمون سوى نماذج للفشل؟
وكيف يمكن الحديث عن قانون أو مؤسسات بينما المناصب تتحول إلى غنائم يتقاسمها الأقوى، لا الكفء؟ الحقيقة أن هذا الوضع لا يقود إلا إلى مزيد من التآكل، ومزيد من الفوضى، ومزيد من الانحدار.
إن التغيير الحقيقي لن يأتي من هذه التشكيلة، ولا من هذه القيادات التي أثبتت أنها عاجزة عن تمثيل مشروع وطني جامع؛ فكل ما تفعله هو إعادة تدوير الأزمة نفسها بأشكال مختلفة. الحل يبدأ من الشعب، من وعي الناس بأن الدولة لا تُمنح كهبة من زعيم أو تحالف، بل تُبنى بإرادة جماعية ومؤسسات راسخة. أما الاكتفاء بالانجرار خلف الأطراف المتصارعة، فهو مشاركة غير مباشرة في إطالة عمر الفوضى.
لقد آن الأوان أن يدرك اليمنيون أنّ استعادة الدولة لا تعني تغيير الأسماء في المناصب أو تبديل الوجوه في القصر، بل تعني إقامة نظام قانوني يعلو على الجميع، وترسيخ مؤسسات محايدة، وقطع الطريق على تحويل الوظائف إلى إقطاعيات شخصية. ومهما حاولت الأطراف المتصارعة تغليف طموحاتها بشعارات وطنية، فإن الحقائق على الأرض تفضحها: غياب أي مشروع حقيقي، غياب الرؤية، وغياب الحد الأدنى من المسؤولية.
إن ما يجري اليوم في قمة السلطة هو انعكاس مصغّر لحالة التفكك التي يعيشها الوطن بأسره: كل طرف يفكر بمكاسبه، ولا أحد يفكر بالوطن. وإذا لم يستفق الشعب سريعًا إلى خطورة هذا المسار، فإن الدولة لن تُنهب فقط، بل ستُدفن فعليًا، ولن يبقى منها سوى الأطلال. وحينها لن يجدي العويل على الماضي، لأن الجميع سيكون قد شارك – صمتًا أو جهراً – في عملية الدفن.
والخلاصة في الاخير ما يحدث ليس صراعًا من أجل الوطن، ولا خلافًا حول مؤسسات، ولا خطوة نحو بناء دولة. إنه تقاسم غنيمة باردة بين أطراف عاجزة عن تقديم أي رؤية، وشعب منقسم بين مطبّل ومتفرج. ومادام هذا الواقع قائمًا، فإن الحديث عن مستقبل الدولة سيظل وهمًا كبيرًا، فيما الحقيقة الماثلة أنّ الجثة تُنهب أمام أعين الجميع.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news