اغتيال أفتهان المشهري جريمة كبرى في تعز .. بين فشل الحماية وتشظي الشرعية
قبل 1 دقيقة
ان اغتيال الأستاذة أفتهان المشهري "أم قصي" مديرة عام صندوق النظافة والتحسين بتعز، رحمة الله تغشاها، والجنة بإذن الله مثواها، جريمة تهز الوجدان وتدمي القلوب وتفتح من جديد ملف الاغتيالات المتكررة في مدينة تعز التي عُرفت يومًا بأنها مدينة الثقافة والعلم، فإذا بها تتحول إلى ساحة للعبث الأمني والفوضى وموئل للفاسدين والمتقاعسين من قيادات السلطة المحلية والعسكرية والأمنية، الذين عجزوا عن حماية أبنائها ووقف نزيف دمائهم.
إن اغتيال هذه المرأة ليس مجرد جريمة بحق فرد، بل هو اغتيال للمروءة والشهامة والحمية والرجولة والغيرة والأخلاق، إذ مثلت الأستاذة أفتهان نموذجًا للمرأة القادرة على إدارة مؤسسة عامة بكفاءة ونزاهة وإصرار، فأثبتت أنها أقدر من كثير من أشباه الرجال الذين يتسابقون على المناصب ولا يقومون بواجباتهم، وكان اغتيالها رسالة واضحة أن يد الغدر لا تفرق بين مسؤول عسكري وأمني أو ناشط مجتمعي أو امرأة صادقة في موقعها.
لم يكن هذا الحادث معزولًا عن سياق أوسع من الجرائم التي شهدتها تعز خلال السنوات الأخيرة، فقد اغتيل في المدينة العديد من الضباط والناشطين والأكاديميين، من أبرزهم العقيد عدنان الحمادي قائد اللواء 35 مدرع الذي كان يمثل إحدى ركائز المقاومة ضد الحوثيين، كما تم اغتيال العميد عبدالله حسين قائد الشرطة العسكرية بتعز في ظروف غامضة وغيرهم من الضباط والسياسين مثل الشهيد ضياء الاهدل، فضلًا عن استهداف عدد من ضباط الأمن والاستخبارات وأئمة المساجد والناشطين المدنيين الذين سعوا لترسيخ قيم الدولة والنظام، في سلسلة تكشف عن نمط واضح لسياسة التصفية الجسدية التي تنخر جسد المدينة وتستنزف كوادرها.
اللافت أن الاتهامات المتبادلة بين مكونات الشرعية في تعز تسبق أي تحقيقات أمنية شفافة أو مستقلة، مما يحوّل مسرح الجريمة إلى ساحة للمزايدات السياسية بدلًا من أن يكون منطلقًا لكشف الحقائق وملاحقة القتلة، وهو ما يعمّق الانقسام ويتيح للجريمة أن تمر بلا حساب، ويمنح القتلة شعورًا بالإفلات من العقاب.
ولا يمكن إغفال الاحتمال الكبير بأن يكون الجاني مدعومًا أو مدسوسًا من قبل المليشيات الحوثية التي أثبتت قدرة على اختراق صفوف الشرعية وإدارة عمليات نوعية في مناطق خاضعة للحكومة، كما لا يمكن استبعاد أن تكون هذه الجرائم من تنفيذ بلاطجة منفلتين داخل المدينة يستغلون حالة الفوضى والتسيب الأمني لتحقيق أهداف شخصية أو لخدمة أجندات مشبوهة، وفي كل الأحوال فإن النتيجة واحدة: تعز تُذبح من الداخل على مرأى ومسمع من الجميع.
تعز التي قدّمت آلاف الشهداء في مواجهة مليشيات الحوثي الإرهابية تجد نفسها اليوم مسرحًا للجريمة المنظمة، حيث تتراشق مكونات الشرعية بالاتهامات وتتنصل من مسؤولياتها، في وقت تستغل فيه المليشيا هذا التصدع لتوسيع نفوذها وضرب المدينة من الداخل، إذ لم يعد سلاح الحوثي وحده هو الذي يفتك بأبنائها، بل غياب الدولة وتهاون القيادات وفساد المؤسسات هو ما يفتح الطريق لاغتيال كل صوت نزيه وكل إرادة صادقة.
إن هذه الجريمة تعكس حقيقة مريرة مفادها أن تعز لم تعد ضحية الحوثي وحده، بل ضحية الصراع الداخلي وتشظي الشرعية والفوضى الأمنية، وضحية قيادات محلية وعسكرية فقدت إحساسها بالمسؤولية تجاه شعبها، وتخلت عن أبسط واجباتها في حماية مواطنيها، وأمام ذلك فإن استمرار الاغتيالات يجعل من دماء الأبرياء ثمناً لتواطؤ أو عجز أو فساد من هم في موقع المسؤولية.
من هنا فإن الواجب يفرض على القوى الوطنية أولًا أن تتوحد لوقف هذا الانهيار الأمني والسياسي، كما يفرض على الحكومة الشرعية أن تتحمل كامل المسؤولية وتباشر تحقيقًا شفافًا ومستقلًا يكشف القتلة ويفضح شبكات الجريمة المنظمة التي تعبث بأرواح أبناء تعز، وأن تتم محاسبة كل من يثبت تقصيره أو تستره عن هذه الجرائم، فالدماء التي تسيل في تعز ليست مجرد أرقام في نشرات الأخبار بل هي رمز لكرامة مدينة بأكملها.
رحم الله الأستاذة أفتهان المشهري، وألهم أهلها وذويها الصبر والسلوان، وجعل دمها لعنة على القتلة والفاسدين، وصرخة توقظ الضمائر وتعيد لتعز مكانتها كمدينة للثقافة والعلم والتضحية والنضال.
* أكاديمي ومحلل سياسي يمني
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news