كيف تجاوزت أمة كارثة المجاعة لتصبح قوة عظمى، بينما تراجعت أخرى وسط وفرة الموارد والموقع الاستراتيجي ؟!
اليمن الاتحادي/ خاص :
في تاريخ الأمم، تتباين مساراتها في التعامل مع الشدائد والتحديات، وتعد اليمن والصين مثالين بارزين على هذا التباين، حيث واجهت كلتا الدولتين ظروفا صعبة في منتصف القرن الماضي لكنهما سلكتا طرقا مختلفة تماما أدت إلى نتائج متباينة بشكل جذري.
فبينما نجحت الصين في تحويل أزمتها الكارثية إلى نقطة انطلاق نحو العظمة، ظلت اليمن حبيسة دائرة الصراعات والتأخر، على الرغم من امتلاكها لفرص وموارد لم تكن متاحة للصين في بداياتها.
الصين: من رماد المجاعة إلى فجر القوة العظمى
عند تأسيس جمهورية الصين الشعبية في عام 1949، كانت البلاد تعاني من ظروف اقتصادية واجتماعية مزرية. بلغت هذه الظروف ذروتها في فترة “المجاعة الصينية الكبرى” بين عامي 1958 و1961، والتي تُعد واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية في التاريخ الحديث. يُقدر أن هذه المجاعة، التي كانت نتاجا لسياسات “القفزة العظيمة للأمام” الطموحة ولكن غير المدروسة، وسوء الإدارة، بالإضافة إلى الكوارث الطبيعية كالجفاف والفيضانات، قد تسببت في وفاة ما بين 15 إلى 55 مليون شخص. كانت الصين في ذلك الوقت دولة فقيرة، تعتمد بشكل كبير على الزراعة التقليدية، وتعاني من شح الموارد وقلة البنية التحتية.
على الرغم من هذه الكارثة، تمكنت الصين من تخطي هذه التحديات بشكل مذهل.
استراتيجية العزلة والبناء الداخلي
يكمن مفتاح هذا التحول في استراتيجية فريدة اعتمدتها القيادة الصينية: بناء دولة مركزية قوية وفرض عزلة نسبية عن العالم الخارجي في البداية. هذا النهج سمح للصين بالتركيز على توطيد أركان الدولة وتطوير بنيتها التحتية الأساسية دون تشتت بسبب التدخلات الخارجية أو الضغوط الدولية. كان الهدف هو بناء اقتصاد ذاتي ومستقل.
وبعد فترة من التحديات الأولية، وخاصة بعد انتهاء المجاعة وفترة الاضطرابات، بدأت الصين في تنفيذ إصلاحات اقتصادية جريئة في أواخر السبعينيات تحت قيادة دينغ شياو بينغ. تمثل “الإصلاح والانفتاح” تحولاً جذرياً من الاقتصاد المخطط مركزيا إلى اقتصاد سوق اشتراكي، وشملت هذه الإصلاحات:
_ تحرير الزراعة: حيث تم السماح للمزارعين ببيع فائض إنتاجهم في السوق، مما حفز الإنتاجية.
_ التوجه نحو الصناعة والتصدير: تحويل التركيز الاقتصادي من الزراعة إلى التصنيع الثقيل والخفيف والتصدير، مما أدى إلى نمو اقتصادي غير مسبوق تجاوز 10% سنويا لعدة عقود.
هذا التحول مكن الصين من أن تصبح ثاني أكبر اقتصاد في العالم بحلول عام 2010، وأن تتحول من دولة فقيرة تعاني من المجاعة إلى قوة اقتصادية وعسكرية عالمية ذات تأثير متزايد.
اليمن: فرص مهدرة ودائرة صراعات لاتنتهي
في الفترة ذاتها، وبعد التخلص من الحكم الإمامي عام 1962، وجدت اليمن نفسها أمام ظروف صعبة لكنها أقل تعقيدا بكثير مقارنة بما مرت به الصين. كانت اليمن تمتلك فرصا وموارد طبيعية أفضل بكثير وموقعا جغرافيا استراتيجيا متميزا على مضيق باب المندب، مما كان يمكن أن يمنحها ميزة تنافسية كبيرة. ومع ذلك، لم تستطع اليمن تحقيق أي استقرار حقيقي أو تطور يوازي الصين.
وظلت تعيش في دوامة من الصراعات الداخلية والفساد
وعانت من سلسلة من العوامل التي أعاقت تنميتها ومن أهمها:
_ الصراعات الداخلية المستمرة: حيث شهدت البلاد صراعات متكررة بين الشمال والجنوب، ومحاولات انفصالية، مما أدى إلى عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي.
_ الولاءات الخارجية المتعددة: حيث سمحت اليمن بتدخلات أجنبية مكشوفة وسافرة، مما زاد من تعقيد الصراعات الداخلية وعمق الانقسامات. هذه التدخلات، سواء كانت من قوى إقليمية أو دولية، استنزفت موارد البلاد وأعاقت بناء دولة قوية وموحدة.
_ الفساد المزمن: تفشى الفساد على نطاق واسع في مؤسسات الدولة، مما أضعف قدرتها على تقديم الخدمات الأساسية للمواطنين، وحرم البلاد من الاستفادة الكاملة من مواردها.
_ الانقلابات وتدمير الدولة: أدت هذه العوامل المتراكمة إلى انفجار الصراعات عدة مرات، بلغت ذروتها في انقلاب الحوثيين عام 2014، والذي أدى إلى حرب أهلية مدمرة وتدمير مؤسسات الدولة.
الفارق الجوهري: العزلة مقابل التدخلات
يكمن الفارق الجوهري بين المسارين الصيني واليمني في كيفية تعاملهما مع العالم الخارجي والتدخلات الأجنبية.
فالصين اختارت منذ بداياتها نهج “العزلة النسبية” لتجنب التأثيرات الخارجية التي قد تعرقل بناء دولتها القوية.
ولم يكن هذا انغلاقا مطلقا، بل عزلة استراتيجية مكنت القيادة من التركيز على الإصلاحات الداخلية وبناء البنية التحتية والمؤسسات فقط، وبعد أن أصبحت الدولة قوية ومستقرة داخليا، بدأت الصين في الانفتاح التدريجي على العالم، مستفيدة من التجارة والاستثمار دون أن تفقد سيادتها أو تشتت جهودها الداخلية.
على النقيض تماما، سمحت اليمن بتدخلات أجنبية مباشرة وغير مباشرة منذ فترة مبكرة، مما زاد من حدة الصراعات الداخلية وأضعف قدرة الدولة على بناء مؤسساتها.
وأدت هذه التدخلات إلى تشابك الولاءات، وغياب القرار الوطني الموحد، وتفاقم الفوضى، مما حال دون تحقيق أي تقدم مستدام. والوضع الحالي الذي تعيشه اليمن اليوم والذي يُعد كارثة إنسانية غير مسبوقة، هو نتيجة مباشرة لتراكم هذه الصراعات والتدخلات التي مزقت النسيج الاجتماعي والسياسي للبلاد.
اليمن والصين .. مفترق طرق بين النهوض والانهيار
تُقدم قصتا اليمن والصين اليوم درسا تاريخيا عميقا حول أهمية القيادة الحكيمة، والاستراتيجية طويلة المدى، والقدرة على حماية السيادة الوطنية في مواجهة التحديات. الصين، التي واجهت ظروفا كارثية أكثر حدة، أظهرت قدرة هائلة على تحويل المحنة إلى فرصة، من خلال بناء دولة قوية من الداخل قبل الانفتاح على العالم.
في المقابل، تراجعت اليمن، على الرغم من إمكاناتها، بسبب الفساد والصراعات الداخلية والتدخلات الأجنبية التي قوضت استقرارها وفرصها في التنمية.
الفارق في مصير كلتا الدولتين يؤكد أن القدرة على التحكم في الذات وحماية السيادة هي المفتاح لتحقيق الازدهار المستدام، حتى في أصعب الظروف.
ففي الوقت الذي عززت فيه الصين استقلال قرارها الاقتصادي والسياسي حتى حين قررت الانفتاح، كان اليمن يسمح بتغوّل التدخلات الخارجية، مع فساد مزمن وبيروقراطية مترهلة، ما أدى إلى تأخر التنمية وتراجع القدرة على مواكبة العالم. النتيجة، كما يراها اليمنيون اليوم، انهيار فعلي للدولة عقب سيطرة الحوثيين على صنعاء، والحروب الأهلية المدمرة، التي اوصلت البلاد الى كارثة إنسانية مستمرة تُوصف بأنها الأكبر في العالم.
المفارقة الصارخة أن اليمن، رغم امتلاكه فرصًا أفضل نسبيا عند انطلاقته مقارنة بالصين، أضاع تلك الفرص بسبب غياب رؤية استراتيجية موحدة وإرادة سياسية مستقلة. بينما دفعت الصين ثمنًا باهظًا في بداياتها لكنها بنت مؤسساتها وأدارت مواردها بإحكام حتى حصدت نتائج غير مسبوقة.
الدرس الأهم من هذه المقارنة أن مصير الأمم لا تحدده فقط الموارد أو الجغرافيا، بل النهج المتبع في التعامل مع التحديات، داخليًا وخارجيًا. فالإدارة الصارمة للتضحيات في البداية قد تثمر قوة واستقلالًا على المدى البعيد، في حين أن السماح للصراعات الداخلية والتدخلات الخارجية بتقويض الدولة يبدد أي أفق للتنمية والاستقرار
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news