فساد النخب "من يحاسب من؟"
قبل 19 دقيقة
لقد تحوّل اليمن إلى أسوأ مثال للفساد المالي والإداري وانعدام الشفافية، لدرجة عدم القدرة على تصنيفه في سلم الشفافية والفساد العالمي بعد أحداث 2011م، والتي للأسف شاركت فيها بقوة مع آخرين في محافظة تعز ورابطت في الساحات بنية ساذجة لتصحيح فساد كان محدوداً وضمن دولة موجودة، ولم نحسب حساب بقاء الدولة متماسكة وتربص الهاشمية السياسية و مليشيات الحوثي من السيطرة على اليمن ونشؤ الكنتونات؛ و القرارات الخاطئة التي أوصلت اليمن إلى ما هي عليه الآن من فساد وضياع للسيادة و بحث النخب عن مصالحها دون النظر لمصلحة الوطن كما كانت تدعيه من شعارات زائفة كاذبة وتقاسم ومحاصصة مقيتة وكشوفات إعاشات... الخ
إن تحوّل القيادات في الجمهورية اليمنية إلى رجال اعمال و استثمار ونخب فساد، و جمعهم بين الاختين في تزاوج شاذ بين المصالح السياسية والتجارية مع اعمال الدولة و الحكومة في آن واحد، جعل من المستحيل أن يكون السياسي رجل أعمال وفي الوقت ذاته مسئولاً عن منع الفساد أو محاسبة الفاسدين. وكما قيل في المثل اليمني "إذا كان الوجع في الرأس فمن أين ستأتي العافية؟".
فساد النخب: تشخيص الأزمة ومقارنات إقليمية وعالمية
المشكلة التي اطرحها، وهي فساد النخب والقيادات السياسية في اليمن، والتي تمثل الفاعل الرئيسي في الأزمة اليمنية الشاملة؛ إن تحول المسؤولين في السلطات العليا وقيادات الأحزاب وكوادرها العليا و المتقدمة إلى لاعبين اقتصاديين رئيسيين و رجال اعمال واستثمار قد دمر هيبة الدولة وعطل مؤسساتها، كما أوضحت بشكل دقيق عبر أمثلة عديدة في استثمارات خاصة بمؤسسة اهلية مثل المستشفيات والمدارس والجامعات الخاصة وشركات الصرافة وغيرها.
تشخيص الوضع في اليمن: دولة مفككة واقتصاد منهوب:
1. إفقار الدولة وإثراء النخبة، وعندما يتحول المسؤول إلى تاجر ورجل أعمال، فإن أول ما ينهار هو نظام المحاسبة والشفافية. يصبح المسؤول هو الفاعل والمحاسب في الوقت نفسه، مما يؤدي إلى:
· تآكل الإيرادات العامة: الفساد في الجمارك والموانئ والمطارات والضرائب وغيرها يحرم الخزينة العامة من عائداتها الأساسية. تصريح محافظ البنك المركزي أحمد المعبقي عن وجود 147 جهة إيرادية رئيسية لا تورد إلى البنك المركزي إيرادات البلد مما يبين بالدليل الصادم على انهيار الدولة ذاتها لصالح كانتونات ومليشيات تبحث عن مصالحها، وكما أشرت سابقاً في العنوان (فمن يحاسب من).
· تقويض سيادة القانون: تفقد الدولة قدرتها على فرض معايير الجودة أو جباية الضرائب من كبار المستفيدين، لأن هؤلاء المستفيدين هم جزء من النظام الحاكم.
2. الفساد كأداة للسيطرة السياسية: في سياق الصراع اليمني، تحول الفساد من مجرد سوء إدارة إلى أداة حرب. تقوم جميع الأطراف المتصارعة (مكونات الحكومة الشرعية المعترف بها دولياً، جماعة الحوثي الإرهابية) والتي اصبحت تعتمد بتمويل أنشطتها العسكرية والسياسية من خلال السيطرة على الموارد الاقتصادية (موانئ، معابر برية، تحويلات المغتربين، المساعدات الإنسانية)، مما يجعل استمرار الصراع مصلحة اقتصادية للنخب المسيطرة.
مقارنات مع فساد النخب في دول أخرى:
ان ظاهرة فساد النخب ليست فريدة من نوعها في اليمن، لكن درجة انتشارها وتأثيرها المدمر يختلف حسب قوة مؤسسات الدولة.
· نماذج متقدمة نسبياً في مكافحة الفساد:
· الإمارات العربية المتحدة وقطر: حيث تمتلك هذه الدول أجهزة رقابة مالية قوية وتتبنى سياسات اقتصادية حديثة ويكاد الفساد ينعدم فيها، وإذا وجد، يكون محصوراً جداً وأكثر تطوراً وأقل وضوحاً، لكنه لا يصل إلى مستوى تدمير إيرادات الدولة الأساسية بسبب قوة الموارد (النفطية والغازية وغيرها) ووجود إرادة سياسية للحفاظ على استقرار بيئة الأعمال والاستثمارات.
· سنغافورة: هي النموذج الأشهر في الانتقال من فساد واسع النطاق إلى دولة تتمتع بشفافية عالية وسمعة دولية مشهودة. حققت ذلك من خلال إرادة سياسية حقيقية، ورواتب عالية للموظفين العموميين (لتقليل إغراء الرشوة)، وقوانين صارمة، وأجهزة رقابية مستقلة ذات سلطات واسعة.
· نماذج تشبه الحالة اليمنية (دول هشة أو في حالة صراع):
· العراق ولبنان: هما الأقرب إلى اليمن، ففي لبنان تتحكم النخب الطائفية في اقتصاد ريعي قائم على المصارف والتحويلات والمساعدات، مما أدى إلى انهياره بالكامل. في العراق، أدى نظام المحاصصة الطائفية والإثني عشرية المسيطرة على أغلب مناطق العراق باستثناء الشمال الكردي الذي تتقاسمه عائلتي بارزاني وطالباني ونفوذهم وفسادهم المعروف في كردستان العراق، أو مليشيات الحشد الشعبي واحزاب ايران مثل حزب الدعوة ونخبه الفاسدة والتي ادت إلى خلق طبقة سياسية فاسدة تستخدم وزارات الدولة وميزانياتها النفطية الضخمة لتمويل أحزابها وميليشياتها وإثراء نفسها، مما أدى إلى تدهور الخدمات رغم عائدات النفط الهائلة.
· أفغانستان (ما قبل سقوط كابل 2021): كانت نموذجاً صارخاً لفساد النخب المدعومة من الخارج، حيث تم تحويل مليارات الدولارات من المساعدات الدولية إلى جيوب المسؤولين وقيادات عليا، مما ساهم بشكل مباشر في فقدان الشرعية وسقوط الحكومة في براثن الفساد وتشعبات المصالح والكانتونات. وأخيراً استطاعت حركة طالبان إسقاط هذه الحكومة (حكومة كرازاي وتحالف خلفاء "أحمد شاه مسعود الذي قُتل سابقاً")، وخروج القوات الأميركية والدولية بعد عشرين عام.
· نماذج من أفريقيا: جمهورية الكونغو الديمقراطية وغينيا الاستوائية: حيث تتحكم عائلة أو نخبة ضيقة بثروات البلاد المعدنية والنفطية الكبيرة في بلد فقير ومعدم (الماس، الكوبالت، النفط) بينما يعيش أغلب السكان في فقر مدقع، والدولة هنا مجرد أداة لنهب الثروات وإثراء النخب وقيادات البلد.
· ترتيب اليمن: لسنوات عديدة، احتلت اليمن مراكز متأخرة جداً في هذا المؤشر. في آخر تقرير عندما كانت اليمن تصنف كبلد مستقر نسبياً ما قبل 2011م (قبل تصنيفها كدولة في حالة حرب وصراع شامل)، كانت تحتل مرتبة من بين الأسوأ في العالم. في التقرير الأخير (2023)، لم يتم تضمين اليمن في التصنيف الأساسي بسبب الحرب والاضطرابات السياسية المستمرة والصراع الذي يجعل جمع البيانات الموثوقة مستحيلاً، وهذا في حد ذاته بيان على شدة الأزمة. الدول التي تحتل القاع معها أو مكاناً مشابهاً هي الصومال، سوريا، جنوب السودان، فنزويلا. ووجود اليمن في قاع هذا المؤشر، أو حتى عدم قدرة المنظمات الدولية على قياس الفساد فيها بسبب انهيار الدولة، يؤكد ما يقوله الجميع.
الخاتمة: كيف يمكن محاسبة النخب؟
سؤال "من يحاسب من؟" هو جوهر المعضلة، ومحاسبة النخب الفاسدة يتطلب:
1. إرادة سياسية حقيقية من قيادة تريد الإصلاح وتكون نظيفة اليد وغير مرتبطة بشبكات المصالح.
2. بناء مؤسسات رقابية قوية ومستقلة من خلال جهاز مكافحة فساد مركزي، أو هيئة وطنية لمكافحة الفساد، وتأسيس اللجنة الوطنية للشفافية، ودعم قضاء نزيه عبر تفعيل دور نيابة الأموال العامة، وإنشاء قضاء إداري متخصص يتمتع بالسلطة والموارد والحصانة.
3. الشفافية كأساس لأي عمل حكومي، من خلال نشر الموازنات وعقود المشتريات الحكومية وإقرارات الذمة المالية للمسؤولين.
4. مشاركة المجتمع المدني والإعلام في كشف حالات الفساد وعدم التستر عليها، وإعادة تفعيل الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة ودعمه بما يحتاج للقيام بعمله، وإعادة الدور الرقابي لمجلسي النواب والشورى والضغط من أجل المساءلة.
5. ضغوط دولية من خلال ربط المساعدات والإعمار بمعايير الشفافية ومكافحة الفساد.
في ظل الوضع الحالي في اليمن، حيث تتحكم مليشيات ونخب متصارعة في موارد البلاد وتستخدم الفساد كوقود للصراع، فإن تحقيق هذه الشروط يبدو بعيد المنال، لكن فهم عمق الأزمة وآلياتها هو الخطوة الأولى لأي إصلاح حقيقي في المستقبل.
*أكاديمي ومحلل سياسي يمني
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news