تحديات وفرص الحكومة اليمنية لتحقيق الاستقرار الاقتصادي المستدام
أعد المادة لـ "برّان برس" - أنسام عبدالله:
ما يزال اليمن يواجه أزمة إنسانية واقتصادية حادة، تفاقمت بفعل الصراع الطويل الأمد، والتشرذم السياسي العميق، وتصاعد التوترات الإقليمية. أدت هذه الحالة المستمرة من عدم الاستقرار إلى انكماش الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بنسبة 54% منذ عام 2015، مما دفع غالبية اليمنيين إلى براثن الفقر المدقع.
وصل انعدام الأمن الغذائي إلى مستويات غير مسبوقة، حيث يعاني أكثر من 60% من السكان من ضعف القدرة على الحصول على الغذاء الكافي. وقد أشارت المسوحات الهاتفية، التي أجراها البنك الدولي في يوليو 2024 إلى أن الحرمان الشديد من الغذاء، تضاعف بأكثر من الضعف في بعض المحافظات، مما يسلط الضوء على تفاقم الأزمة.
ومن السمات المميزة للمشهد الاقتصادي اليمني التشرذم الصارخ بين المناطق التي تسيطر عليها الحكومة المعترف بها دولياً، والتي تتمركز بشكل أساسي في عدن، وتلك الخاضعة لسيطرة الحوثيين. أدى هذا الانقسام إلى تباينات كبيرة في معدلات التضخم وأسعار الصرف، مما يقوض جهود تحقيق الاستقرار الاقتصادي الوطني. وقد أدى نقل مقر البنك المركزي اليمني إلى عدن في عام 2016 من صنعاء إلى ترسيخ هذا الانقسام الاقتصادي.
تتجاوز طبيعة الصراع في اليمن الأبعاد العسكرية والسياسية التقليدية لتشمل صراعاً اقتصادياً متميزاً. هذا البعد الاقتصادي يتجلى في الإجراءات الاستراتيجية، مثل نقل مقر البنك المركزي اليمني من صنعاء إلى عدن في عام 2016، وحظر الحوثيين تداول العملة الجديدة التي طبعتها الحكومة في عام 2019.
هذه الخطوات لم تكن مجرد ردود فعل على الظروف الاقتصادية، بل كانت مناورات تهدف إلى السيطرة الاقتصادية وتقويض الطرف الآخر. هذا يعني أن أي تحليل للإصلاحات الاقتصادية وديناميكيات العملة في المناطق المحررة يجب أن يأخذ في الاعتبار، أن هذه الجهود لا تهدف فقط إلى التعافي الاقتصادي بمعناه التقليدي، بل هي أيضاً جزء لا يتجزأ من استراتيجية أوسع في "الحرب الاقتصادية" الدائرة.
وهذا يضيف طبقة من التعقيد لفهم فعالية السياسات واستجابات السوق، حيث قد تتأثر القرارات الاقتصادية بالاعتبارات الاستراتيجية ضد الفصيل المعارض، مما قد يؤثر على التحسين الأمثل للرفاهية العامة.
في هذه التحليل يهدف "برّان برس"، إلى تحليل دقيق للعلاقة المعقدة بين الإصلاحات الاقتصادية التي بدأتها الحكومة المعترف بها دولياً، وديناميكيات سعر صرف الريال اليمني المتقلبة، والتغيرات الناتجة في أسعار السلع الاستهلاكية في المحافظات المحررة في اليمن.
ويركز النطاق على تقديم تقييم شامل ومستند إلى الأدلة للفترة، التي شهدت تدخلات حكومية حديثة وتدخلات من البنك المركزي اليمني. ويسعى إلى تحديد الدوافع الرئيسية لهذه الديناميكيات، والتحديات المستمرة التي تواجهها، والآثار السياسية الأوسع لتحقيق الاستقرار الاقتصادي المستدام وتحسين سبل عيش السكان اليمنيين .
مبادرات الإصلاح
الحكومة اليمنية، التي تعمل من مدينة عدن المعلنة عاصمة مؤقتة، شرعت في سلسلة من مبادرات الإصلاح الاقتصادي والمالي، وقد اتخذت خطوة مهمة في 24 مايو 2023، بتشكيل لجنة مخصصة لمتابعة تنفيذ برنامج شامل للإصلاح الاقتصادي والمالي والنقدي. يشمل هذا البرنامج سياسات وأنشطة وإجراءات وأطر حوكمة متنوعة.
تتألف اللجنة من ممثلين رفيعي المستوى من الوزارات الحيوية، بما في ذلك وزارة المالية (التي ترأس اللجنة)، والبنك المركزي اليمني، ووزارات الصناعة والتجارة، والخدمة المدنية، والنفط والمعادن، والإدارة المحلية، والتخطيط والتعاون. وتشمل ولايتها وضع خطة زمنية مفصلة لتنفيذ الإصلاحات، ومناقشة هذه الخطة والموافقة عليها لتقديمها إلى مجلس الوزراء، وإنشاء آلية قوية للمتابعة وجمع البيانات وتحليلها، وإعداد تقارير دورية عن مستوى تنفيذ البرنامج وإرسالها إلى صندوق النقد العربي، الذي يشرف على البرنامج.
تعد هذه الإصلاحات جزءاً من خطة أوسع للتعافي الاقتصادي أقرها مجلس القيادة الرئاسي، وتهدف إلى تعزيز الرقابة المالية والإدارية، وتنظيم الواردات، وتثبيت سوق الصرف الأجنبي بالتعاون مع البنك المركزي وشركات الصرافة المرخصة.
على الرغم من وضع إطار رسمي للإصلاحات الاقتصادية من قبل الحكومة المعترف بها دولياً، إلا أن التقدم الفعلي والتأثير يواجهان قيوداً شديدة بسبب التحديات الجوهرية. ففي حين تظهر السجلات وجود لجنة إصلاح ذات ولاية شاملة، تشير مصادر أخرى إلى وجود "تحديات تمويلية" للحكومة بسبب استهداف الحوثيين لموانئ تصدير النفط، بالإضافة إلى "اختلالات قائمة في مستوى تحصيل الموارد المحلية".
والأهم من ذلك، أن الفساد المستشري يُعد عائقاً رئيسياً، حيث يذكر أحد المصادر صراحة أن "فساد الشرعية يعرقل الإصلاحات الاقتصادية في المحافظات المحررة". هذا التناقض بين النوايا الرسمية والواقع الميداني يشير إلى أن المشكلة لا تقتصر على غياب السياسات، بل تتجذر في ضعف الحوكمة وتحديات تعبئة الموارد، مما يعيق جهود الإصلاح حتى في ظل وجود خطط منظمة.
أدوات البنك
يعمل البنك المركزي اليمني في عدن بهدف أساسي يتمثل في تحقيق استقرار الأسعار والمحافظة عليه، إلى جانب تعزيز نظام مالي مستقر قائم على السوق يسهم في التنمية الاقتصادية. يعتمد إطاره للسياسة النقدية على نظام استهداف النقود، مع التركيز على معدل نمو المجاميع النقدية. ويُعد العرض النقدي الواسع الهدف الوسيط، بينما تُعتبر الأموال الاحتياطية الهدف التشغيلي الأساسي.
تشمل أدوات البنك المركزي للعمليات النقدية البيع/الشراء المباشر للأوراق المالية الحكومية، وإصدار شهادات الإيداع، ومعاملات العملات الأجنبية، ومعاملات اتفاقية إعادة الشراء، والتسهيلات الدائمة، ومتطلبات الاحتياطي.
ورداً على تقلبات السوق، نفذ البنك المركزي اليمني "إجراءات صارمة ضد الأنشطة غير القانونية، وخاصة المضاربة بأسعار الصرف"، والتي يعتبرها من أبرز التحديات التي تواجه الاستقرار الاقتصادي. وتشمل هذه الإجراءات إلغاء تراخيص شركات صرافة متهمة بالتلاعب بالعملة (مثل 24 شركة، ثم تسع شركات أخرى لاحقاً) ، بالإضافة إلى إدخال تدابير تنظيمية أكثر صرامة لتعزيز الرقابة على القطاع المالي.
علاوة على ذلك، استأنف البنك المركزي مزادات بيع العملات الأجنبية للبنوك التجارية ، وهي آلية تهدف إلى امتصاص فائض السيولة بالريال اليمني وتسهيل تمويل الواردات الأساسية. وقد بدأت اللجنة الوطنية لتنظيم وتمويل الاستيراد أيضاً في تغطية طلبات الاستيراد بالأسعار الرسمية.
على الرغم من أن تدخلات البنك المركزي اليمني في عدن ضرورية لمعالجة الأزمة المالية والنقدية، إلا أنها تواجه تحديات كبيرة بسبب الانقسام السياسي والاقتصادي في اليمن. ففي حين تساهم إجراءات البنك المركزي في استقرار سعر الصرف على المدى القصير، فإن استدامة هذا التحسن محل تساؤل.
يشير بعض الخبراء إلى أن التحسن في سعر الصرف قد يكون "وهمياً" وليس مؤشراً حقيقياً على تحسن الاقتصاد إذا لم تتخذ الحكومة إجراءات ملموسة تؤثر على العملة. هذا التقييم يعكس حقيقة أن البنك المركزي في عدن يعمل في بيئة اقتصادية مجزأة، حيث توجد سياسات نقدية متنافسة بين المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة وتلك التي يسيطر عليها الحوثيون.
وبالتالي، فإن فعالية تدخلات البنك المركزي، على الرغم من أهميتها المحلية، تظل محدودة بسبب غياب سياسة نقدية وطنية موحدة، مما يجعل تحقيق استقرار دائم مرهوناً بحل سياسي أوسع.
تحديات تنفيذ الإصلاحات
يُعد التراجع الحاد في الإيرادات الحكومية تحدياً بالغ الأهمية لتنفيذ الإصلاحات. فقد أدى حصار الحوثيين لصادرات النفط إلى انخفاض كبير بنسبة 42% في الإيرادات المالية للحكومة المعترف بها دولياً خلال النصف الأول من عام 2024. ويُعيق هذا النقص الحاد في الإيرادات قدرة الحكومة على تقديم الخدمات الأساسية للسكان.
تتضمن التحديات الداخلية الفساد المستشري، الذي يُعد عائقاً رئيسياً أمام الإصلاحات الاقتصادية في المحافظات المحررة. ويؤدي هذا الفساد المنهجي إلى تحويل الموارد وتقويض مصداقية وفعالية جهود الإصلاح. وتؤكد الهيئات الدولية مثل البنك الدولي باستمرار على "الهشاشة المستمرة وسط المخاطر المتزايدة" في الاقتصاد اليمني، وتشدد على الحاجة الملحة لمعالجة الاختلالات المالية والخارجية.
يستمر التشرذم الاقتصادي المتفاقم بين المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون وتلك التي تسيطر عليها الحكومة المعترف بها دولياً، والذي يتسم بتباينات في معدلات التضخم وأسعار الصرف، في تقويض الاستقرار العام وجهود التعافي المستقبلية.
إن تأثير استهداف الحوثيين لموانئ تصدير النفط يتجاوز مجرد انخفاض الإيرادات الحكومية بنسبة 42%. هذا النقص الحاد في الإيرادات يترجم مباشرة إلى عجز الحكومة عن تقديم الخدمات الأساسية، مثل الكهرباء والرعاية الصحية والتعليم. وهذا بدوره يخلق حلقة مفرغة: تدهور الخدمات يؤثر سلباً على جودة حياة المواطنين، ويقلل من ثقتهم في الحكومة، ويحد من النشاط الاقتصادي، ويثبط الاستثمار.
وهذه التداعيات لا تؤدي فقط إلى تفاقم الأزمة الإنسانية، بل تعيق أيضاً قدرة الحكومة على تعبئة الموارد المحلية وتطبيق الإصلاحات بفعالية، مما يحبس المناطق المحررة في دوامة من عدم الاستقرار المزمن. وبالتالي، فإن مشكلة الإيرادات ليست مجرد تحدٍ مالي، بل هي أزمة حوكمة عميقة تؤثر على قدرة الحكومة على أداء وظائفها الأساسية وبناء الشرعية من خلال تقديم الخدمات.
انخفاض وتقلبات
منذ تصاعد الصراع في عام 2015، شهد الريال اليمني انخفاضاً حاداً ومستمراً في قيمته مقابل العملات الأجنبية، وخاصة الدولار الأمريكي. وقد أثر هذا التراجع بشكل كبير على الأسعار والقوة الشرائية للأسر اليمنية.
وصل الانخفاض إلى مستويات حرجة بحلول أكتوبر 2018، عندما تراجع الريال إلى 800 ريال يمني لكل دولار أمريكي، وهو تباين صارخ عن سعره قبل الأزمة الذي كان يبلغ حوالي 250 ريال يمني لكل دولار أمريكي.
كانت نقطة تحول محورية في مسار العملة هي نقل البنك المركزي اليمني إلى عدن في عام 2016، تلاها حظر سلطات الحوثيين تداول الأوراق النقدية الجديدة للريال اليمني في المناطق الخاضعة لسيطرتهم أواخر عام 2019. أدت هذه الإجراءات إلى "انقسام" فعلي في الاقتصاد الوطني، مما أسفر عن تباين كبير ومستمر في أسعار الصرف بين المناطق التي تسيطر عليها الحكومة المعترف بها دولياً والمناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين.
على سبيل المثال، بحلول يونيو 2021، كان سعر صرف الدولار الأمريكي في مناطق الحكومة أعلى بكثير مما كان عليه في المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين، حيث ظل السعر مستقراً نسبياً.
مؤخراً، شهد الريال انخفاضاً كبيراً آخر في عدن، حيث تراجع من 1,619 ريال يمني لكل دولار أمريكي في يناير 2024 إلى 1,917 ريال يمني لكل دولار أمريكي بحلول نهاية أغسطس 2024. وفي مايو 2024، تجاوز سعر الدولار في السوق الموازية بعدن 1720 ريال يمني.
إن التباين الصارخ في استقرار العملة بين المناطق التي تسيطر عليها الحكومة المعترف بها دولياً والمناطق التي يسيطر عليها الحوثيون ليس مجرد نتيجة لتقلبات السوق العادية، بل هو انعكاس لسياسة متعمدة تهدف إلى استخدام العملة كسلاح في الصراع الدائر. فقرار نقل البنك المركزي اليمني إلى عدن من قبل الحكومة، وحظر الحوثيين تداول العملة الجديدة في مناطقهم، يمثلان خطوات استراتيجية تهدف إلى فرض السيطرة الاقتصادية وتقويض شرعية الطرف الآخر.
هذا التشرذم الاقتصادي، حيث يظل الريال مستقراً نسبياً في مناطق الحوثيين بينما يشهد تقلبات حادة في المناطق المحررة، يؤكد أن استقرار العملة ليس تحدياً نقدياً بحتاً، بل هو جزء لا يتجزأ من الصراع السياسي الأوسع. وبالتالي، فإن أي محاولة لتحقيق استقرار دائم للريال في المناطق المحررة يجب أن تعالج هذه الانقسامات السياسية العميقة، وهو ما يؤكده صندوق النقد الدولي بتأكيده على "توحيد العملة" كأولوية قصوى للاستقرار الاقتصادي.
الاتجاهات الأخيرة
على الرغم من الاتجاه التاريخي للانخفاض، أظهر الريال اليمني مؤخراً فترات من التعافي والاستقرار الملحوظ في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة المعترف بها دولياً. على سبيل المثال، استعاد الريال ما يقرب من 30% من قيمته في الأسابيع الأخيرة، حيث انخفض سعر صرف الدولار الأمريكي من حوالي 2,900 ريال يمني إلى حوالي 1,800 ريال يمني. وتشير البيانات الأحدث إلى استقرار الدولار الأمريكي عند 1,617 ريال يمني والريال السعودي عند 425 ريال يمني ، مع مصدر آخر يذكر 1633 ريال يمني للدولار و428 ريال يمني للريال السعودي.
يُعزى هذا الارتفاع الأخير في قيمة العملة بشكل كبير إلى التدخلات المباشرة والصارمة من قبل البنك المركزي اليمني في عدن. وتشمل الإجراءات الرئيسية إلغاء تراخيص 24 شركة صرافة متهمة بالتلاعب بالعملة، وتوقيف تسع شركات أخرى ، إلى جانب إدخال تدابير تنظيمية جديدة لتعزيز الرقابة على القطاع المالي بالتنسيق مع البنوك التجارية ووكالات تحويل الأموال.
كما أطلق البنك المركزي آليات لدعم استقرار السوق، مثل الإعلان عن بدء تغطية طلبات البنوك وشركات الصرافة بالأسعار الرسمية المحددة، وتشجيع التجار والمستوردين على تقديم طلباتهم عبر القنوات المعتمدة.
على الرغم من أن تدخلات البنك المركزي اليمني في عدن أدت إلى تحسن ملحوظ في سعر صرف الريال، إلا أن استدامة هذا التحسن تبقى هشة. ففي حين أن إجراءات مثل إلغاء تراخيص شركات الصرافة المتلاعبة قد تكبح المضاربة على المدى القصير ، فإن التحديات الهيكلية الأعمق لا تزال قائمة.
تشير بعض التقييمات إلى أن تأثير المضاربة قد يكون محدوداً مقارنة بالعوامل الأساسية الأخرى. كما أن هناك تساؤلات حول ما إذا كان هذا التحسن "وهمياً" ولا يعكس تحسناً حقيقياً في الاقتصاد إذا لم تتخذ الحكومة إجراءات ملموسة لمعالجة الاختلالات الأساسية. هذا يشير إلى أن المكاسب الناتجة عن التدخلات المباشرة، وإن كانت ضرورية لإدارة الأزمات الفورية، قد لا تكون كافية لتحقيق استقرار دائم. فالاستقرار المستدام للريال يتطلب معالجة القضايا الاقتصادية الأساسية مثل الانضباط المالي، واستئناف صادرات النفط، والتمويل الخارجي المستمر، وإلا فإن أي تحسن في قيمة العملة قد يكون مؤقتاً وعرضة للتراجع .
العوامل المؤثرة
صادرات النفط:
يُعد حصار الحوثيين لموانئ تصدير النفط ضربة قاصمة للمالية العامة للحكومة المعترف بها دولياً، مما أدى إلى انخفاض كبير بنسبة 42% في إيراداتها خلال النصف الأول من عام 2024. ويؤدي هذا النقص في الإيرادات إلى تكثيف الضغوط الخارجية على الريال، مما يسهم بشكل مباشر في انخفاض قيمته. ويُعد استئناف صادرات النفط أولوية رئيسية لإنعاش النمو الاقتصادي وتجديد احتياطيات النقد الأجنبي.
المساعدات الخارجية والودائع:
لعب الدعم المالي الخارجي، وخاصة الودائع الكبيرة من المملكة العربية السعودية (مثل 2 مليار دولار في 2018، وحزمة جديدة بقيمة 500 مليون دولار في 2024/2025 تتضمن وديعة بقيمة 300 مليون دولار و200 مليون دولار لدعم عجز الموازنة) ، دوراً حاسماً تاريخياً في استقرار الريال. وقد عززت هذه الودائع احتياطيات النقد الأجنبي ومكنت من تمويل الواردات الأساسية بأسعار صرف تفضيلية.
ومع ذلك، غالباً ما تزامن استنفاد الودائع السابقة مع تجدد انخفاض قيمة العملة ، مما يؤكد الطبيعة المؤقتة لهذه التدخلات دون إصلاحات اقتصادية أساسية.
المضاربة والسياسة النقدية:
تهدف الإجراءات الصارمة التي يتخذها البنك المركزي اليمني ضد التلاعب بالعملة واستخدامه لأدوات السياسة النقدية، بما في ذلك مزادات العملات الأجنبية، إلى كبح الضغوط المضاربية وتثبيت السوق. ويهدف إطار استهداف النقود للبنك المركزي إلى التأثير على نمو الأسعار من خلال التحكم في المعروض النقدي.
التشرذم السياسي:
يُعد وجود بنكين مركزيين متنافسين وسياسات نقدية متباينة بين المناطق التي تسيطر عليها الحكومة المعترف بها دولياً والمناطق التي يسيطر عليها الحوثيون ، عاملاً رئيسياً في تشرذم سوق الصرف الأجنبي. ويساهم هذا التشرذم بشكل كبير في تباينات أسعار الصرف وتقلباتها الإجمالية، مما يجعل الإدارة الاقتصادية الموحدة صعبة للغاية.
التوترات الإقليمية (البحر الأحمر):
أدت التوترات الإقليمية المتصاعدة، وخاصة هجمات الحوثيين في البحر الأحمر، إلى تعطيل الملاحة والتجارة الدولية، مما أدى إلى زيادة تكاليف الشحن وأقساط التأمين. ورغم أن أحد المصادر يشير إلى أن هذه الاضطرابات "لم تسفر بعد عن زيادة كبيرة في أسعار المستهلكين" (أكتوبر 2024) ، فإن مصدراً آخر (يونيو 2024) يشير إلى أن هذه التكاليف المرتفعة تضغط بالفعل على الاقتصاد اليمني المعتمد على الواردات، مما يوحي بتأثير محتمل مستقبلي على أسعار المستهلكين.
إن قيمة الريال اليمني ليست مجرد دالة للسياسة النقدية الداخلية أو قوى السوق؛ بل هي متشابكة بعمق مع الصراع الجيوسياسي الأوسع، والقدرة المالية للحكومة المعترف بها دولياً، ومدى الدعم المالي الدولي. توضح المصادر أن التوقف عن تصدير النفط بسبب حصار الحوثيين أدى إلى انخفاض إيرادات الحكومة بنسبة 42% ، مما كثف الضغوط الخارجية على الريال وأدى إلى انخفاض قيمته. في المقابل، ساهمت الودائع السعودية في استقرار أسعار الصرف وعززت احتياطيات البنك المركزي من العملات الأجنبية.
هذا الترابط يعني أن تحقيق استقرار دائم لسعر الصرف يتطلب نهجاً متعدد الأوجه يعالج القضايا الأساسية للصراع، بما في ذلك وقف الأعمال العدائية التي تؤثر على مصادر الإيرادات الحيوية، وتوفير دعم مالي خارجي كبير ومستمر، وفي نهاية المطاف، حل سياسي يوحد المشهد الاقتصادي المجزأ. بدون معالجة هذه الدوافع الكلية، ستظل أي مكاسب نقدية هشة وعرضة للصدمات الخارجية .
الأمن الغذائي
تتجلى الأزمة الإنسانية في اليمن بشكل حاد في انتشار انعدام الأمن الغذائي، الذي وصل إلى مستويات تاريخية. يواجه أكثر من 60% من السكان حالياً عدم كفاية الوصول إلى الغذاء. وقد أشارت المسوحات الهاتفية التي أجراها البنك الدولي في يوليو 2024 إلى أن الحرمان الشديد من الغذاء تضاعف بأكثر من الضعف في بعض المحافظات، مما يسلط الضوء على تفاقم الأزمة.
ارتفعت تكلفة المعيشة، وخاصة أسعار السلع الأساسية، بشكل كبير في عدن والمناطق المحررة الأخرى. تُجبر العديد من الأسر اليمنية الآن على إنفاق أكثر من 60% من دخلها على الغذاء وحده، مما يترك موارد ضئيلة لتلبية الاحتياجات الأساسية الأخرى.
أظهرت سلع غذائية أساسية محددة، مثل الدخن والذرة والقمح، تغيرات متفاوتة في الأسعار الشهرية في مايو 2024 عبر محافظات محررة مختلفة مثل عدن وتعز وشبوة والضالع وسيئون والمكلا وسقطرى. على سبيل المثال، ارتفع متوسط سعر التجزئة للدخن في مايو 2024 بنسبة 6.6% مقارنة بالشهر السابق، حيث سجلت عدن أعلى سعر (2113 ريال يمني/كجم) وتعز الأدنى (1000 ريال يمني/كجم).
على الرغم من أن البيانات تُظهر بعض التقلبات في أسعار السلع الأساسية، إلا أن الصورة الأوسع تشير إلى أزمة عميقة في القدرة الشرائية للأسر. فبينما قد تسجل بعض السلع انخفاضات طفيفة أو تذبذبات شهرية، فإن حقيقة أن أكثر من 60% من السكان يواجهون صعوبة في الحصول على الغذاء الكافي، وأن الأسر تنفق أكثر من 60% من دخلها على الغذاء وحده ، تُظهر أن هذه التقلبات لا تُترجم بالضرورة إلى تحسن ملموس في الظروف المعيشية.
وهذا يشير إلى وجود فجوة بين مؤشرات الاقتصاد الكلي (مثل التضخم أو تغيرات الأسعار) والواقع المعيشي للأسر، حيث لا تزال القدرة على تحمل التكاليف ضئيلة بسبب ركود الدخل أو تدهوره. وبالتالي، فإن التركيز على أسعار السلع وحدها دون معالجة ضعف القوة الشرائية للأسر لن يخفف بشكل كافٍ من الأزمة الإنسانية.
تقلبات الأسعار
يعني الاعتماد العميق لليمن على الواردات لتلبية احتياجاته من السلع الأساسية – حيث يستورد حوالي 90% من سلعها الغذائية قبل الصراع – أن قيمة الريال اليمني تحدد بشكل مباشر تكلفة هذه الضروريات الحيوية. وبالتالي، فإن أي انخفاض في قيمة الريال مقابل العملات الأجنبية يترجم فوراً إلى ارتفاع في أسعار المواد الغذائية الأساسية المستوردة وغيرها من السلع الاستهلاكية.
على العكس من ذلك، من المتوقع أن يؤدي ارتفاع قيمة العملة المحلية إلى انخفاض مماثل، في أسعار السلع الأساسية المستوردة. وبالفعل، لوحظ أن جهود الحكومة لتثبيت الريال تتزامن مع "انخفاضات نسبية في أسعار بعض السلع الأساسية، أبرزها الأسماك والخضراوات والفواكه".
ومع ذلك، تقر الحكومة نفسها بأن وتيرة هذه الانخفاضات في الأسعار "يجب أن تكون أسرع وأكثر شمولاً"، وتحث على أن يمتد الانخفاض ليشمل جميع المواد الغذائية المستوردة، بما في ذلك اللحوم والدواجن والبيض، لتعكس بشكل كامل تحسن سعر الصرف.
العلاقة بين ارتفاع قيمة العملة وانخفاض أسعار السلع الاستهلاكية ليست علاقة تلقائية أو فورية، بل غالباً ما تتسم بالتأخر وعدم التماثل. ففي حين تميل الأسعار إلى الارتفاع بسرعة وبشكل كامل عند انخفاض قيمة العملة، فإنها تميل إلى الانخفاض ببطء وبشكل جزئي، أو مع تأخير كبير، عندما ترتفع قيمة العملة.
يشير ذلك إلى وجود آليات نقل غير كاملة في السوق، حيث يستغل التجار أحياناً "تكاليف الاستيراد السابقة" كذريعة للحفاظ على الأسعار المرتفعة، حتى عندما تسمح أسعار الصرف الحالية بانخفاضها.
هذا السلوك قد ينبع من اختلالات في قوى السوق، أو نقص المنافسة الفعالة بين التجار، أو حتى سلوك انتهازي، بالإضافة إلى ضعف الرقابة التنظيمية. وبالتالي، فإن مجرد تثبيت سعر الصرف ليس كافياً لضمان استفادة المستهلكين بشكل كامل من هذا التحسن، مما يتطلب تدخلات رقابية قوية لضمان شفافية الأسعار وعدالة السوق.
مراقبة السوق
استجابةً لارتفاع قيمة الريال، أعلنت وزارة الصناعة والتجارة بشكل استباقي عن قوائم أسعار رسمية جديدة للسلع الأساسية في المناطق المحررة.
وقد تم توجيه مكاتب الوزارة المحلية في محافظات رئيسية مثل عدن ومأرب والمهرة لتكثيف مراقبة الأسواق واتخاذ إجراءات حازمة ضد أي تجار يتبين أنهم يخالفون توجيهات التسعير الجديدة.
كما تم إطلاق حملات أمنية في جميع أنحاء المحافظات المحررة لفرض تخفيضات الأسعار، مما أدى إلى اعتقال "مئات التجار غير الملتزمين". وهذا يدل على جهد منسق لفرض الالتزام بالأسعار المعدلة.
وقد أكد رئيس الوزراء سالم بن بريك شخصياً على الضرورة الملحة لترجمة تحسن سعر صرف الريال إلى تخفيض فعلي في أسعار السلع والخدمات. ودعا إلى اتخاذ إجراءات حاسمة ضد المتلاعبين بالأسعار وشدد على أهمية المراقبة الميدانية الفعالة، بل قام بزيارة ميدانية لوزارة الصناعة والتجارة في عدن لمتابعة جهود مراقبة السوق وآليات التحكم في الأسعار. كما تطرق صراحة إلى ذريعة التجار الشائعة بـ "تكاليف الاستيراد السابقة"، مؤكداً أن التسعير يجب أن يعكس أسعار الصرف اليومية.
على الرغم من الجهود الحكومية الواضحة لفرض الرقابة على الأسعار من خلال إصدار قوائم أسعار وتكثيف حملات التفتيش واعتقال المخالفين ، فإن التحدي في تحقيق انخفاض سريع وشامل في الأسعار لا يزال قائماً.
فالإصرار الحكومي على ضرورة أن تكون وتيرة الانخفاض "أسرع وأكثر شمولاً" ، بالإضافة إلى العدد الكبير من التجار غير الملتزمين الذين تم ضبطهم ، يشير إلى أن التنفيذ الفعال والمستدام لهذه الإجراءات يواجه عقبات كبيرة.
وهذا يعكس مشكلات أعمق تتعلق بضعف الحوكمة، واحتمال وجود فساد داخل أجهزة الرقابة (كما أشير في سياق الإصلاحات العامة) ، والصعوبة الكبيرة في تنظيم سوق واسع ومجزأ في منطقة صراع. وبالتالي، فإن تحقيق تأثير دائم يتطلب بناء قدرات مؤسسية قوية للإنفاذ، وتعزيز الشفافية، والحد من الفساد لضمان بيئة سوق عادلة تحمي المستهلكين من الاستغلال.
دور الدعم الخارجي
لعب التمويل والدعم الخارجي من الشركاء الدوليين، لا سيما المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، دوراً أساسياً في توفير السيولة النقدية للحوكمة والخدمات الأساسية في المناطق المحررة في اليمن.
وعلى وجه التحديد، تم تخصيص الودائع السعودية بشكل استراتيجي لتغطية استيراد السلع الغذائية الأساسية، مثل حبوب القمح ودقيق القمح والأرز والحليب وزيت الطهي والسكر، وغالباً ما كان ذلك بأسعار صرف تفضيلية (على سبيل المثال، 440 ريال يمني لكل دولار أمريكي).
وقد ساهم هذا الدعم المباشر للواردات بدور حاسم في زيادة المعروض من السلع الغذائية، وبالتالي في خفض أسعارها في الأسواق المحلية.
وتشير الأبحاث الصادرة عن منظمات مثل مركز صنعاء للدراسات إلى أن توجيه التحويلات المالية من المساعدات الإنسانية نحو دعم استقرار أسعار السلع الأساسية وحماية السوق من التشوهات الناجمة عن الصراع يمكن أن يسهم بشكل كبير في خفض الأسعار. ويمكن لمثل هذه السياسة أيضاً أن تضمن وصولاً مستقراً إلى العملات الأجنبية اللازمة للمستوردين الأساسيين.
ومع ذلك، توجد عقبة كبيرة: فقد أعربت وكالات الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية الدولية العاملة في الاستجابة الإنسانية عن ترددها في ربط تحويلات مساعداتها مباشرة بالبنك المركزي اليمني بسبب مخاوف من تسييس التدخلات الإغاثية.
يُظهر التحليل أن هناك فرصة كبيرة غير مستغلة في إدارة تدفقات المساعدات الإنسانية. ففي حين أن هذه المساعدات تُقدم دعماً حيوياً مباشراً، فإنها لا تُستغل بالكامل لتحقيق الاستقرار الاقتصادي الكلي.
تشير التقارير إلى أن توجيه الأموال بالعملة الأجنبية من المساعدات لدعم استيراد السلع الأساسية يمكن أن يكون "استراتيجية منخفضة التكلفة ولكنها مربحة للغاية" لتثبيت الأسعار. ومع ذلك، فإن تردد وكالات الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية في التعامل مباشرة مع البنك المركزي اليمني بسبب مخاوف من تسييس المساعدات يمثل عائقاً كبيراً.
وهذا التردد يعكس توتراً أساسياً بين مبادئ العمل الإنساني (الحياد والاستقلالية) وجهود الاستقرار الاقتصادي. إن عدم استغلال هذه التدفقات الكبيرة من العملات الأجنبية لدعم السوق يمثل فرصة ضائعة لمعالجة أحد الأسباب الجذرية لعدم استقرار الأسعار. وبالتالي، فإن تجاوز هذه المعضلة يتطلب إيجاد آليات شفافة ومحايدة، ربما بمشاركة طرف ثالث موثوق به ، لضمان توجيه العملة الأجنبية من المساعدات لدعم الواردات الأساسية دون المساس بالمبادئ الإنسانية.
الأدلة التجريبية:
يوفر بيانات ملموسة ودقيقة لدعم الادعاءات حول تقلبات الأسعار، متجاوزاً الملاحظات القصصية.
الفوارق الإقليمية:
من خلال إظهار الأسعار عبر المحافظات المحررة المختلفة، يسلط الضوء على الفوارق الإقليمية (على سبيل المثال، غالباً ما تكون أسعار عدن أعلى) ، وهو أمر بالغ الأهمية لفهم دقيق للتأثير الاقتصادي.
تحليل الاتجاهات:
يُتيح تضمين التغيرات الشهرية في النسبة المئوية تقييم "سرعة" و"اتجاه" تعديلات الأسعار بعد تقلبات العملة والتدخلات الحكومية. وهذا يساعد على التحقق مما إذا كان "الانخفاض" المبلغ عنه واسع الانتشار ومهماً للسلع الأساسية.
فعالية السياسة:
يُعد مقياساً مباشراً لفعالية جهود الحكومة في التحكم في الأسعار وضمان ترجمة ارتفاع قيمة العملة إلى فوائد ملموسة للمستهلكين. بدون هذه البيانات، سيظل تأثير الإصلاحات على سبل العيش اليومية مجرداً.
علاقة متبادلة
الروابط المباشرة وغير المباشرة: كيف يُترجم استقرار العملة إلى تغيرات في الأسعار، ويتمثل الارتباط الأكثر مباشرة في الاعتماد الكبير للمناطق المحررة في اليمن على الواردات. فبما أن اليمن يستورد ما يقرب من 90% من سلعها الغذائية ، فإن انخفاض قيمة الريال اليمني يزيد مباشرة من تكلفة هذه السلع المستوردة. وعلى العكس من ذلك، من المفترض أن يؤدي تعزيز الريال، من حيث المبدأ، إلى انخفاض تكاليف الاستيراد للتجار، وهو ما يجب أن يترجم إلى أسعار استهلاكية أقل.
تلعب الروابط غير المباشرة أيضاً دوراً حاسماً. فاستقرار سعر الصرف، خاصة عندما يُعزز بالدعم المالي الخارجي مثل الودائع السعودية، يمكن أن يسهم في خفض أسعار الوقود. وانخفاض تكاليف الوقود، بدوره، يقلل مباشرة من نفقات النقل للسلع عبر سلسلة التوريد، مما يسهم بشكل غير مباشر في خفض أوسع في أسعار جميع السلع، وخاصة المواد الغذائية.
ومع ذلك، فإن ترجمة ارتفاع قيمة العملة إلى تخفيضات في أسعار السلع الاستهلاكية ليست تلقائية أو فورية. فالتدخلات الحكومية، بما في ذلك الإجراءات الصارمة للبنك المركزي اليمني ضد المتلاعبين بالعملة وعمليات التفتيش القوية على الأسواق من قبل وزارة الصناعة والتجارة، حاسمة لضمان انتقال فوائد استقرار العملة إلى المستهلكين وعدم امتصاصها من قبل الممارسات المضاربية أو السلوك الاحتكاري.
العلاقة بين استقرار العملة وانخفاض أسعار السلع الاستهلاكية ليست علاقة بسيطة ومباشرة. فبينما يُتوقع أن يؤدي ارتفاع قيمة العملة إلى انخفاض تكاليف الاستيراد، وبالتالي انخفاض الأسعار للمستهلكين ، تُظهر الأدلة أن هذا الانتقال ليس مثالياً.
تُشير المصادر إلى أن الحكومة نفسها تطالب بأن يكون الانخفاض في الأسعار "أسرع وأكثر شمولاً" ، مما يدل على وجود تأخر في انتقال التأثير. كما أن التجار يستغلون أحياناً "تكاليف الاستيراد السابقة" كذريعة للحفاظ على الأسعار المرتفعة، حتى في ظل تحسن سعر الصرف.
وهذا يشير إلى وجود آليات نقل غير كاملة أو "لزجة" للأسعار، حيث تكون الأسعار أكثر مرونة في الارتفاع وأكثر مقاومة للانخفاض. يمكن أن يُعزى هذا التباين إلى اختلالات في قوى السوق، ونقص المعلومات لدى المستهلكين، وغياب المنافسة الفعالة بين التجار، بالإضافة إلى ضعف إنفاذ اللوائح. وبالتالي، فإن التركيز على إدارة العملة وحدها لن يكون كافياً؛ يجب أن تُستكمل هذه الجهود بتدخلات قوية على مستوى السوق الجزئي لضمان أن المكاسب النقدية تُترجم إلى فوائد ملموسة للمواطنين.
فعالية الإصلاحات
لقد أدت التدخلات الأخيرة للبنك المركزي اليمني بالفعل إلى تحسن ملحوظ في سعر صرف الريال اليمني، مما أدى إلى فترات من الاستقرار وارتفاع القيمة. وكان هذا التعافي في العملة نتيجة مباشرة للإجراءات المتخذة ضد التلاعب بالعملة وزيادة المعروض من العملات الأجنبية.
وقد تبع هذا الارتفاع في قيمة العملة، بدوره، "انخفاضات نسبية في أسعار بعض السلع الأساسية"، وخاصة في فئات مثل الأسماك والخضروات والفواكه. علاوة على ذلك، تشير الإعلانات المباشرة عن قوائم أسعار جديدة في بعض المحافظات إلى محاولات حكومية نشطة لترجمة مكاسب العملة إلى فوائد ملموسة للمستهلكين.
ومع ذلك، على الرغم من هذه التحسينات المحلية والمؤقتة غالباً، لا تزال التوقعات الاقتصادية العامة لليمن تشكل تحدياً عميقاً. ويتوقع كل من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي المزيد من الانكماش في الناتج المحلي الإجمالي لليمن لعامي 2024 و2025. ويستمر الفقر وانعدام الأمن الغذائي عند مستويات مرتفعة بشكل مقلق، مما يشير إلى أن التحسينات على مستوى الاقتصاد الكلي لم تغير بشكل أساسي الظروف المعيشية الصعبة لغالبية السكان.
ويحذر الخبراء الاقتصاديون باستمرار من أن استدامة أي اتجاهات اقتصادية إيجابية تعتمد بشكل كبير على استمرار التدخلات الرقابية، وتوحيد جهود الدولة لمكافحة الاحتكارات، وحل أوسع للصراع.
تُظهر المصادر تبايناً بين المكاسب قصيرة المدى والأزمة الهيكلية طويلة الأمد. فمن ناحية، هناك تقارير عن ارتفاع قيمة الريال وانخفاض في أسعار بعض السلع ، مما يدل على نجاح تكتيكي لتدخلات البنك المركزي. ومن ناحية أخرى، تُقدم المؤسسات الدولية الكبرى مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي صورة قاتمة للاقتصاد اليمني ككل، متوقعة انكماشاً مستمراً في الناتج المحلي الإجمالي وارتفاع مستويات الفقر وانعدام الأمن الغذائي.
وهذا التناقض يشير إلى أن الإصلاحات الحالية، على الرغم من ضرورتها وتحقيقها لبعض النتائج الإيجابية، هي في الأساس استجابات تكتيكية تهدف إلى إدارة الأعراض بدلاً من معالجة الأسباب الجذرية للانهيار الاقتصادي. فالتحسينات التي تتحقق غالباً ما تكون هشة ولا تغير المسار الاقتصادي الأساسي. وبالتالي، فإن التعافي المستدام والشامل يتطلب تحولاً نموذجياً يتجاوز إدارة الأزمات لمعالجة القضايا الأساسية للصراع، والتشرذم السياسي، وحصار صادرات النفط، وأوجه القصور المستمرة في الحوكمة.
التحديات المستمرة والصدمات الخارجية
الجمود السياسي والتشرذم:
لا يزال الانقسام السياسي المستمر بين المناطق التي تسيطر عليها الحكومة المعترف بها دولياً والمناطق التي يسيطر عليها الحوثيون عائقاً أساسياً أمام الاستقرار والتعافي الاقتصادي. ويؤدي هذا التشرذم إلى تباين في السياسات الاقتصادية، وازدواجية في أسعار الصرف، ويعيق أي استراتيجية اقتصادية وطنية موحدة. ويحدد صندوق النقد الدولي صراحة "توحيد العملة" كأولوية رئيسية للحد من الانقسامات الاقتصادية.
حصار الحوثيين لصادرات النفط:
لا يزال هذا الحصار يمثل تحدياً حاسماً ومدمراً، حيث يؤثر بشدة على الإيرادات المالية للحكومة المعترف بها دولياً، وبالتالي على قيمة الريال اليمني. ويحرم عدم القدرة على تصدير النفط الحكومة من مصدرها الرئيسي للعملة الأجنبية.
التوترات الإقليمية (البحر الأحمر):
بينما يذكر أحد المصادر (أكتوبر 2024) أن اضطرابات البحر الأحمر "لم تسفر بعد عن زيادات كبيرة في أسعار المستهلكين" ، يشير مصدر آخر (يونيو 2024) إلى أن هذه التوترات قد أدت بالفعل إلى زيادة تكاليف الشحن وأقساط التأمين، مما يضغط على الاقتصاد اليمني المعتمد على الواردات. وهذا يشير إلى تأثير محتمل مستقبلي على أسعار المستهلكين وعامل صدمة خارجي مستمر.
ضعف الحوكمة والفساد:
تستمر العوامل الداخلية مثل ضعف الحوكمة والفساد المستشري في إعاقة التنفيذ الفعال للإصلاحات وتقويض الرقابة على السوق، مما يقلل من تأثير التدخلات السياسية الإيجابية.
تحديات جمع البيانات:
يؤدي الصراع المستمر والسيطرة المجزأة إلى صعوبة بالغة في جمع بيانات اقتصادية موثوقة وشاملة. ويُعقد هذا النقص في البيانات الدقيقة وفي الوقت المناسب التقييم الاقتصادي السليم وصياغة السياسات الفعالة والمراقبة الشفافة للتقدم.
تُظهر المصادر باستمرار أن الصراع المستمر وغير المحسوم، والذي يتجلى في حصار الحوثيين لصادرات النفط، والتشرذم السياسي العميق، وحتى التوترات الإقليمية في البحر الأحمر، يمثل "سقفاً" أو قيداً أساسياً على مدى التعافي الاقتصادي. فصندوق النقد الدولي يذكر صراحة أن التوقعات الاقتصادية "تعتمد على تقدم محادثات السلام في اليمن".
ويؤكد البنك الدولي أن "استئناف صادرات النفط والتعافي الاقتصادي الأوسع يبدوان بعيد المنال دون اتفاق سلام دائم". هذا يشير إلى أن التحسينات الاقتصادية، مهما كانت جيدة النية أو منفذة استراتيجياً، محدودة في نهاية المطاف بالوضع الحربي المستمر. فالصراع يستنزف الموارد، ويشوه الأسواق، ويخلق بيئة من عدم اليقين الشديد التي تثبط الاستثمار وتمنع النمو المستدام. وبالتالي، فإن اتفاق السلام الدائم ليس مجرد هدف سياسي، بل هو العامل الأكثر أهمية لإطلاق العنان لإمكانات اليمن الاقتصادية وتحقيق استقرار حقيقي وطويل الأمد وتحسين سبل العيش.
الخلاصة
عانت العملة اليمنية في المحافظات المحررة من فترات انخفاض حاد في قيمتها، مدفوعة بشكل أساسي بتأثير الصراع على الإيرادات الحكومية (خاصة حصار الحوثيين لصادرات النفط)، والتشرذم السياسي العميق الذي أدى إلى اقتصاد مزدوج، ونقص تدفقات العملات الأجنبية.
أظهرت الإصلاحات الاقتصادية الاستباقية الأخيرة والتدخلات الصارمة من قبل البنك المركزي اليمني في عدن، المدعومة بودائع مالية خارجية حاسمة (لا سيما من المملكة العربية السعودية)، بعض النجاح في تثبيت الريال وحتى رفع قيمته على المدى القصير، مما أدى إلى كبح فعال للأنشطة المضاربية في سوق العملات.
وقد أدى هذا التحسن في قيمة العملة، بدوره، إلى انخفاضات أولية، وإن كانت غير متساوية ومتأخرة غالباً، في أسعار بعض السلع الاستهلاكية الأساسية. آلية انتقال تأثير ارتفاع قيمة العملة إلى انخفاض أسعار المستهلكين غير مثالية، وتتطلب رقابة حكومية نشطة وإنفاذاً لمكافحة أوجه القصور في السوق والتلاعب المحتمل بالأسعار.
وعلى الرغم من هذه المكاسب المحدودة والمحلية، لا تزال التوقعات الاقتصادية العامة قاتمة، مع استمرار مستويات الفقر وانعدام الأمن الغذائي المرتفعة. وتستمر التحديات الهيكلية العميقة، بما في ذلك "الحرب الاقتصادية" المستمرة، والفساد المستشري، والصعوبات المتأصلة في العمل في منطقة صراع، في تقويض استدامة وشمولية هذه الاتجاهات الإيجابية.
تظل المساعدات المالية الخارجية حيوية للغاية للاستقرار الاقتصادي الكلي والاستجابة الإنسانية. ومع ذلك، يمكن تعزيز فعاليتها بشكل كبير من خلال معالجة تسييس تدفقات المساعدات وإنشاء آليات شفافة ومحايدة لتوجيه العملات الأجنبية لدعم الواردات الأساسية.
توصيات لاستدامة الاستقرار
إعطاء الأولوية لإطار اقتصادي موحد:
الدعوة بقوة إلى حل سياسي شامل للصراع يؤدي إلى إعادة توحيد المؤسسات الاقتصادية اليمنية، وأهمها البنك المركزي، وإنشاء عملة وطنية واحدة موحدة. هذا هو الأساس للاستقرار والتعافي الاقتصادي على المدى الطويل.
تأمين وتنويع مصادر الإيرادات:
تنفيذ تدابير عاجلة لتسهيل استئناف صادرات النفط من المناطق التي تسيطر عليها الحكومة المعترف بها دولياً، والتي تُعد حيوية لإيرادات الحكومة. بالتزامن مع ذلك، استكشاف وتطوير آليات مستدامة لتوليد الإيرادات المحلية لتقليل الاعتماد المفرط على المساعدات الخارجية وتعزيز الاستقرار المالي.
تعزيز استقلالية وقدرة البنك المركزي:
تقوية المرونة المؤسسية والحوكمة والقدرة الفنية للبنك المركزي اليمني في عدن. ويشمل ذلك تمكينه من إدارة السياسة النقدية بفعالية، ومكافحة الأنشطة المالية غير المشروعة والتلاعب بالعملة بصرامة، وتحسين جمع البيانات والشفافية بما يتماشى مع المعايير الدولية.
تعزيز الرقابة على السوق وحماية المستهلك:
تنفيذ برامج قوية ومستدامة لمراقبة السوق، وإنفاذ قوانين مكافحة الاحتكار، ومكافحة التلاعب بالأسعار من قبل التجار بنشاط. هذا أمر بالغ الأهمية لضمان ترجمة أي مكاسب من ارتفاع قيمة العملة بشكل كامل وسريع إلى أسعار استهلاكية أقل. إنشاء قنوات واضحة ومتاحة لشكاوى المستهلكين وضمان اتخاذ إجراءات عقابية سريعة ضد المخالفين.
تحسين استخدام المساعدات الخارجية:
العمل مع الشركاء الدوليين لتطوير آليات شفافة وغير مسيسة وفعالة لتوجيه المساعدات الخارجية، وخاصة مكوناتها من العملات الأجنبية، لدعم استيراد السلع الأساسية مباشرة. يمكن لهذه الاستراتيجية أن تساهم بشكل كبير في استقرار أسعار السوق وتعزيز الأمن الغذائي. إشراك الجهات الفاعلة الإنسانية في تصميم وتنفيذ هذه الآليات للتغلب على المخاوف بشأن التسييس.
معالجة نقاط الضعف الهيكلية الاقتصادية:
بالإضافة إلى الاستقرار الفوري، تنفيذ إصلاحات هيكلية أوسع تهدف إلى تحسين بيئة الأعمال بشكل عام، وتشجيع استثمارات القطاع الخاص، وخلق فرص عمل مستدامة. هذا التحول من إدارة الأزمات إلى النمو التنموي طويل الأجل ضروري لاقتصاد مرن.
تحسين جمع البيانات وتحليلها:
الاستثمار في تعزيز جودة وشفافية واستقلالية جمع البيانات الاقتصادية وتحليلها في جميع مناطق اليمن. فالبيانات الموثوقة وفي الوقت المناسب لا غنى عنها لصياغة سياسات مستنيرة قائمة على الأدلة ولتتبع تأثير الإصلاحات بدقة.
الحرب الإقتصادية
الحكومة اليمنية
الاستقرار الاقتصادي
الريال اليمني
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news