بين مطر الطبيعة وسيل الفساد تغرق عدن
قبل 5 دقيقة
في حين تتجه أنظار العالم نحو التغيرات المناخية بوصفها المتهم الأول في الكوارث الطبيعية التي تضرب المدن، فإن ما تشهده مدينة عدن من أزمات متكررة نتيجة هطول الأمطار يعكس واقعاً أكثر تعقيداً، يتجاوز حدود الطبيعة إلى عمق الإخفاقات البشرية ، حيث تتلاقى عوامل الفساد، وسوء التخطيط، وانعدام الرقابة، لتشكل مشهداً مأساوياً تتكرر فصوله مع كل موسم أمطار
.
فالأمطار التي هطلت على عدن ليست ظواهر مناخية استثنائية، بل تصنّف ضمن المعدلات الموسمية التي عرفتها المدينة لعقود طويلة، بل إن روايات بعض السكان المحليين تشير إلى أن سيولاً مماثلة كانت تجتاح مناطق مثل "الحسوة" قبل أكثر من أربعين عاماً دون أن تتسبب في كوارث تذكر، الفرق الجوهري اليوم هو أن مجاري السيول التي كانت تنساب بحرية في الماضي تحوّلت بفعل التوسع العشوائي والفساد الإداري إلى مناطق سكنية ومبانٍ تجارية وأحياناً إلى مكبات نفايات ما أدى إلى اختناق المسارات الطبيعية للمياه وتحولها إلى قوة تدميرية تجرف كل ما يعترض طريقها.
هنا لا يمكن الحديث عن "مفاجآت مناخية" بل عن تداعيات مباشرة لانهيار منظومة التخطيط الحضري في المدينة. فعدن التي كانت ذات يوم نموذجاً عمرانياً مميزاً في المنطقة تعاني اليوم من غياب شبه كامل للبنية التحتية وافتقارها إلى مشاريع تصريف مياه الأمطار، ناهيك عن غياب الدراسات الجيولوجية والهيدرولوجية التي كان يفترض أن تسبق أي عملية توسع عمراني خاصة في مدينة محاطة بالجبال وتخترقها الوديان.
الأخطر من ذلك أن غياب الدولة الرقابية ما سمح بانتشار البناء العشوائي في مناطق خطرة بما في ذلك مصارف السيول وسفوح الجبال والأراضي الرطبة التي كان من المفترض أن تبقى مناطق محمية بيئياً، فالمواطن مدفوع بحاجته للسكن وغياب البدائل الرسمية وجد نفسه يبني فوق خطرٍ مؤجل بينما تقاعست الجهات المعنية عن أداء دورها في تنظيم التوسع العمراني وإلزام السكان بالقوانين التخطيطية والبيئية.
وفي هذا السياق لا يمكن إعفاء الحكومة من المسؤولية الكاملة عمّا يحدث، فالإهمال المزمن وغياب الرؤية الاستراتيجية وتفشي الفساد في تنفيذ المشاريع الخدمية كلها عوامل ساهمت في ترسيخ هذا الواقع.. لقد تحولت عدن إلى مختبر مفتوح للفشل المؤسسي، حيث تُرصد الميزانيات وتُطلق المشاريع لكن دون أثر فعلي على الأرض ما يطرح تساؤلات جدية حول مصير التمويلات وآليات المتابعة والمساءلة.
وإذا ما أريد لعدن أن تستعيد عافيتها فإن المطلوب ليس فقط ترميم ما دمرته السيول بل إعادة هيكلة شاملة لقطاع الخدمات والتخطيط الحضري، تبدأ بمسح عمراني شامل لتحديد المخاطر، وتليها خطوات حازمة في منع البناء غير القانوني، وتوفير بدائل سكنية آمنة وإعادة تأهيل مجاري السيول واستعادة الأراضي الرطبة كمناطق بيئية محمية.
كما أن دور المواطن لا يقل أهمية عن دور الدولة، فرفع الوعي المجتمعي بمخاطر البناء في المناطق الخطرة وتعزيز ثقافة الحفاظ على البيئة يجب أن يكون جزءاً من استراتيجية متكاملة تتقاطع فيها الجهود الرسمية والشعبية.
ما يحدث في عدن ليس كارثة طبيعية بقدر ما هو انعكاس لكارثة إدارية وأخلاقية فالسيول التي أغرقت الأحياء لم تكن سوى مرآة عاكسة لفساد استوطن المؤسسات وتخطيط غاب طويلاً عن أجندة صناع القرار.
ولعل الأمطار رغم ما خلفته من دمار تكون جرس إنذار أخير يدفع نحو إصلاح مؤسسي وإداري حقيقي وجاد طال انتظاره.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news