في تشريح الذاكرة .. سرديات الحنين والمفارقة السياسية في الذكرى الـ43 لتأسيس المؤتمر الشعبي العام
قبل 12 دقيقة
كثيرة هي الكيانات السياسية التي نشأت في لحظات محايثة للانهيار، أو مترصدة على أطراف الحلم. غير أن حزب المؤتمر الشعبي العام، في بنيته التكوينية الأولى، لم يُصغ كجسم سلطوي بقدر ما كان مؤسسة طوعت الواقع اليمني ليبدو مشهدًا منسجمًا مع ذاته. وفي الذكرى الثالثة والأربعين لتأسيس هذا الحزب، يتجلى المؤتمر الشعبي العام كذاكرة تستدعي الحلم، وتلهم الوعي، وتعيد الاعتبار لتاريخ رسم ملامح الدولة على مدى ثلاثة عقود
.
وعندما يُستعاد الحديث عن لحظة التأسيس، فإنها لا تبدو محض واقعة سياسية جافة تُسرد على عجل في البيانات أو المذكرات، بقدر ما تبدو مقطعًا حيًا من الذاكرة الوطنية، يفيض بالحكايات والمواقف والمشاعر، ويتطلب من القارئ أن يُنصت لما خُبِّئ أيضًا في ما وراء الكلمات.
لقد كان التأسيس – كما ينقله من عايشوا البدايات – فعلًا وجوديًا، ولحظة امتلأت فيها القلوب بالحماسة، وتعانقت فيها الإرادات على أمل مشترك، في زمن كانت فيه السياسة أكثر من مهنة أو وظيفة. ولذا كانت مرحلة التأسيس انخراطًا كاملًا في مصير البلاد، ونداءً للاستقلال الحقيقي، ليس عن واقع التشرذم فحسب، بل عن كل أشكال التبعية والخذلان.
إن لحظة التأسيس، حين نتأملها اليوم، لا تبدو مجرد واقعة زمنية محددة، بقدر ما تشبه وعدًا راسخًا في الذهنية الوطنية، ونداءً لم يخفت صداه رغم تقادم الأعوام، ينتقل بين الأجيال ويثير السؤال: ما الذي كنا نطمح إليه؟ أي حلم حملناه معنا إلى الطريق؟ وأي جزء من هذا الحلم تعثر وسقط بين خطانا دون أن ننتبه؟ لذلك، ما بقي في النفوس بعد كل هذا ليس فقط ما تحقق، بل بالأحرى ما ظل معلقًا في الأفق، شاهدًا على إصرارنا وانكساراتنا معًا.
قد يخيَّل للبعض، خاصة من بين المكونات السياسية الأخرى، أن هذا الحديث ينطوي على قدر من المبالغة في حب المؤتمر الشعبي العام، أو يحمل نزوعًا عاطفيًا نحو مرحلة كان فيها الحزب في موقع السلطة، وتميز خلالها نظامه بانفتاح على التعددية وقبول الآخر. غير أن عودة المؤتمر اليوم لا تحتاج إلى سرد خطي أو توثيق زمني صارم ليكون حاضرًا، فالحزب قائم في وجدان الملايين، ويُستعاد كحالة رمزية، وكإسقاط ذهني، وكطيف سياسي لا يزال يتردد في الذاكرة العامة.
ذلك لأنه متجذر في أصول النظام الجمهوري وأدبياته التأسيسية، وفي أذهان من عايشوا مراحله المختلفة، كما في وعي الأجيال التي جاءت بعده، والتي لا تزال تستدعيه كجزء من سردية وطنية لم تكتمل بعد.
ولهذا، لم يعد المؤتمر الشعبي العام مجرد كيان سياسي، بل تحول إلى أثر وطني يتجاوز التصنيف التنظيمي ليصبح سردية جمعية تُستعاد في الذاكرة اليمنية كمرجعية حكم تستحق أن تُدرس. وهنا ربما يبدأ التفاوض النصي بين القارئ والتاريخ، وبين المواطن والذاكرة، وبين اللحظة ومراياها المتكسرة.
فالميثاق الوطني للمؤتمر الشعبي العام شبيه بما وصفه فيليب لوجون في ميثاق السيرة الذاتية: يقوم على التطور والتجدد، وعلى أن الحزب لم يكن مجرد منظومة تنظيمية، بل كان سردًا للكرامة والمعنى. وإذا كان السارد في المذكرات يتماهى مع المؤلف، فإن المواطن اليمني يتماهى مع المؤتمر بوصفه ساردًا لتجربته الجمعية؛ تجربة كتبت بآليات وطنية، لكنها تبحث – كما تبحث نصوص ما بعد الحقيقة – عن خيط سردي يعيد تشكيل اليمن وفق منطق داخلي.
وبما أن سرديات العودة غالبًا ما تكتسي طابعًا أسطوريًا، فقد بات المؤتمر الشعبي العام يُستعاد في الذاكرة الجمعية لا بوصفه حزبًا سياسيًا، بل بوصفه ميثولوجيا وطنية: رمزًا حيًا لماضٍ مملوء بالمعنى، وإطارًا جامعًا لحالة وطنية تشكلت في الوجدان اليمني عبر عقود من الحضور والتأثير. والميثولوجيا هنا لا تعني الخيال المنفصل عن الواقع، بل منظومة قيم وصور ورموز تتجاوز حدود السياسة المباشرة، لتتحول إلى جزء من الوعي العام، يتوارثها الناس كما يتوارثون الحكايات المؤسسة لهويتهم الجماعية.
ولهذا نقول إن استعادة المؤتمر الشعبي العام اليوم هي استعادة لحالة ولزمن جمع الناس على هدف، وأعطاهم شعورًا بالأمان والانتماء. وليس غريبًا أن ترى الملايين تتطلع إلى عودته، لأنه الحزب الذي جعل الألم مفهومًا ومحتملًا داخل سردية وطنية أوسع، ليكون الرهان الأصدق، والذاكرة الأقوى، والنصر الذي لا يُهزم.
وهنا تتجلى المفارقة: ففي الوقت الذي تعجز فيه الكيانات السياسية الجديدة عن إنتاج سرديات جامعة قادرة على توحيد المخيلة الشعبية، ينجح الكيان الحاضر-الغائب – الحزب الذي لم يعد في موقع الحكم – في التمدد داخل الوجدان العام، من خلال المساحات التي خلّفها غيابه. وهكذا تصبح الذكرى بالنسبة للمؤتمر الشعبي العام ليست مجرد استدعاء نوستالجي لماضٍ سياسي، بل محاولة حقيقية لإعادة تشكيل الحاضر، وفتح أفق جديد لإعادة كتابته عبر رمزية الماضي وفاعليته المستمرة.
بهذا المعنى، لا يبدو المؤتمر الشعبي العام بحاجة ماسّة للعودة إلى المشهد كمؤسسة منظمة تمارس سلطتها المباشرة كي يظل فاعلًا ومؤثرًا. يكفي أن يُستعاد بوصفه قصة تُروى، وسردية تتناقلها الألسن، وتحيا في الذاكرة الشعبية كموقع راسخ في المخيلة السياسية اليمنية. ولذا لا يزال محتفظًا بالكثير من رمزيته وقداسته، وبقدرته العجيبة على مقاومة النسيان والتلاشي، رغم ما مر به من تحولات ومؤامرات لاستئصاله.
ختامًا:
ما يجعل حزب المؤتمر الشعبي العام متفردًا عن غيره من الكيانات السياسية هو هذا التحول اللافت: من مشروع سلطة حاكمة إلى سردية مقاومة، ومن نظام سياسي قائم إلى ذاكرة جمعية تسكن وجدان الناس. وكما في السرديات الروائية الكبرى، لا يُطلب من القارئ أن يُسلّم بجميع وقائع النص، بل أن يفهم السياق ويتفاعل مع رموزه، ويتشبع بدلالاته. فالمؤتمر الشعبي العام اليوم ليس مجرد حزب، بل نص مفتوح على التأويل، قادر على الحياة خارج شروط السياسة الضيقة، بوصفه حكاية كبرى لا تزال تتردد في الذاكرة، وتمنح الحاضر معنى.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news