المؤتمر الشعبي العام .. ذاكرة وطنية وكابوس الحوثي
قبل 2 دقيقة
في اليمن ،اليوم، لم يعد تشغيل أغنية وطنية فعلاً بريئًا، بل قد يُعتبر "تخابرًا مع أمريكا"! تخيّلوا، الثورة التي أطاحت بالإمامة قبل 64 عامًا، والتي غيّرت مسار اليمن، صارت فجأة في قاموس الحوثي "مؤامرة أمريكية". غدًا ربما يخرج أحد أبواق الجماعة ليقول إن رفع علم الجمهورية اليمنية مؤامرة صهيونية، وأن ترديد النشيد الوطني جريمة تعادل الخيانة العظمى. يا للمهزلة!
وفي ظل هذا العبث، تعود ذكرى تأسيس المؤتمر الشعبي العام لتذكّر اليمنيين أن السياسة كانت تعني يومًا ما الحوار والتعدد، لا "السمع والطاعة" لزعيم يُقدَّم كرمز مطلق وكأنه "هُبل العصر". هذه المناسبة وحدها كافية لبعثرة حسابات الحوثي، لأنها تعيد للشارع شيئًا من الوطنية المصادرة، وتذكّره أن المؤتمر لم يمت، بل ما يزال رقماً صعبًا في المعادلة.
منذ تأسيسه عام 1982، كان المؤتمر الشعبي العام حزبًا جامعًا لكل اليمنيين، بلا سلالة ولا تمييز، حزب مؤسسات له أنظمته ولوائحه وميثاقه الوطني، الذي رسّخ مفهوم المواطنة المتساوية والاحتكام لصناديق الاقتراع. وهذه القيم بالذات هي التي تؤرق الحوثي، لأنها النقيض الكامل لمشروعه الطائفي القائم على السلالة والولاء الأعمى لزعيم لا يُسأل عما يفعل. ولهذا، يطارد أي ذكرى وطنية كمن يحاول إطفاء الشمس بيده!
المؤتمر لم يكن مجرد حزب، بل مصنع قادة وإداريين صنعوا الدولة لعقود، بينما لم يقدّم الحوثي سوى "منقادين" لا يعرفون سوى ترديد صدى صوت زعيم يعيش في كهف ويظن نفسه دولة. هذه المفارقة وحدها تفضح الفرق بين مشروع وطني يراهن على المؤسسات، ومشروع مليشياوي يراهن على الشعارات والصرخات.
المشهد الأخير الذي عرى مأزق الحوثي كان منعه فعاليات المؤتمر في ذكرى تأسيسه. لم يكن القرار إداريًا بحتًا، بل حلقة في مسلسل إقصاء كل صوت وطني. وبينما كان اليمنيون ينتظرون مناسبة جامعة، باغتهم الحوثي بالقمع والاعتقالات، وحظر أي مظهر احتفالي. في المقابل، فُتحت أبواب الدولة ومواردها على مصراعيها لفعاليات مذهبية طائفية وسلالية دخيلة على النسيج اليمني. مفارقة تكشف ضيق أفق المشروع الحوثي: يمن بلا جمهورية، بلا وطن، فقط ولاية وولاء مطلق لزعيم واحد.
الحقيقة أن هذا السلوك ليس نزوة، بل اعتراف صريح بخوف الحوثي من المؤتمر وشعبيته المتجذرة. الحزب، رغم ما مرّ به من انقسامات وضغوط، لا يزال يمتلك قاعدة جماهيرية واسعة، قادرة في أي لحظة أن تتحول إلى قوة كاسحة تعصف بسلطة المليشيا الإرهابية. لهذا، يبذل الحوثي كل جهده لعزل المؤتمر عن الوعي العام، لأنه يعرف أن عودة الحزب إلى الشارع كفيلة بطي صفحته السوداء.
المضحك المبكي أن الحوثيين الذين يرفعون شعارات "المشاركة" و"التعددية" لا يقبلون حتى بذكرى ثورة أطاحت بالإمامة. بل جرّموا ذكرى 26 سبتمبر عمليًا، واعتبروا مجرد الحديث عنها مؤامرة أجنبية. كأنهم يقولون لليمنيين: انسوا أنكم ثرتم يومًا على الاستبداد، وانسوا أنكم عرفتم الجمهورية. يريدون صياغة ذاكرة جديدة على مقاس مشروعهم الضيق.
المؤتمر الشعبي العام، على النقيض، سيبقى تاريخًا وحزب مؤسسات، له أنظمته وميثاقه وأسسه ولوائحه. ولن تنجح أي محاولة في تدجينه أو السيطرة عليه، لأنه أكبر من الأشخاص وأعمق من المشاريع العابرة. بينما الحوثي ليس سوى مشروع عابر، لا يملك من أدوات البقاء إلا القوة الغاشمة والشعارات الزائفة.
خذوا مثلاً ما حدث مؤخرًا: أعلن المؤتمر إلغاء احتفاله بذكرى التأسيس "تضامنًا مع غزة". لكن الحقيقة أن "التضامن" جاء بعد أن صودرت مخصصاته وأُغلقت قاعاته ولوّحت سلطة صنعاء بالعصا الغليظة. النتيجة واحدة: الاحتفال الوطني محظور، بينما الاحتفال الطائفي مباح ومقدّس.
صنعاء نفسها التي يُجرّم فيها رفع علم الجمهورية تتحول فجأة إلى "ديزني لاند خضراء" احتفالاً بالمولد النبوي. الكهرباء التي غابت عن الناس سنوات تعود فجأة لتضيء الشوارع والحواري فقط كي يقول الحوثي: "نحن هنا". أما ثورة سبتمبر، التي أعادت لليمنيين كرامتهم، فمكانها في أرشيف "الملفات الأمنية"!
الجماعة لا تخشى 26 سبتمبر كحدث تاريخي، بل كذاكرة حيّة. فالذاكرة أخطر من الرصاص، لأنها تذكّر اليمنيين أن الاستبداد سقط مرة، ويمكن أن يسقط مرة أخرى. لهذا يسعى الحوثي إلى إعادة كتابة الذاكرة: يمن بلا جمهورية، بلا مواطنة، بلا أحزاب، فقط ولاية وولاء، وصرخة تُردّد حتى تفقد معناها.
المشكلة أن الذاكرة لا تُمحى بزينة ولا تُلغى بتهديد. صحيح أن الشوارع غُمرت باللون الأخضر، لكن في قلوب اليمنيين يظل الأحمر والأسود والأبيض يرفرف، مهما حاولوا حظر الأعلام.
الحوثي في النهاية يخشى شيئين: التاريخ والجماهير. والتاريخ يقول إن سبتمبر أطاح بسلفه، والجماهير تقول إن الدرس يمكن أن يتكرر. لهذا، ستظل ذكرى المؤتمر كابوسًا يطارده كل عام، وتظل 26 سبتمبر عقدة أبدية في مشروعه. الوطنية لا تُمحى بقرار، والذاكرة لا تُلغى بتهديد، واليمنيون في أعماقهم أحرار ينتظرون لحظة الخلاص من نسخة جديدة من الإمامة، نسخة أكثر قبحًا وأقصر عمراً.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news