إبعد عن الشر وغنّي له!

     
بيس هورايزونس             عدد المشاهدات : 67 مشاهده       تفاصيل الخبر       الصحافة نت
إبعد عن الشر وغنّي له!

الحلقة الثانية في نقد الفلسفة الشعبية

(حتى في الدول التي قننت الشر؛ مقاومته واجب قانوني وأخلاقي بحسب مبدأ الواجب الكانطي)

في مقال العدد الأول من مجلة حوريت الحضرمية عن (فلسفة الأمثال الشعبية) أوضحت بأن الحكم والأمثال الشعبية تحتل موقعًا مركزيًا في الثقافة العربية الإسلامية، إذ تختزن خلاصة التجارب الجمعية، وتعبّر بلغة مكثفة عن فلسفة الناس في مواجهة الكون والحياة والموت، لكنها ليست بريئة دائمًا، فهي قد تنقل وعيًا سلبيًا وتعيد إنتاج أنماط الخوف أو الخضوع. ومن أبرزها المثل الشائع: “ابعد عن الشر وغنّي له!” الذي يستحق وقفة نقدية تفكيكية؛ وإليكم الحكاية:

عقب نشري فيديو تحريم المنطق والفلسفة، وصلتني عبر الشبكة جملة من الرسائل الكريمة من الأحباب والأصدقاء الأعزاء تنصحني بالابتعاد عن (عش الدبابير!) بحسب تعبير أحدهم، وعزيز آخر قال: “ابعد عن الشر وغنّي له!” وصديقة كتبت:

“أحمد ربك أنه سلمك من بطش الإرهابيين، لا عاد تذكرهم!” وأخي عزيز قال: “اتفق معك بأنهم شر مستطير! لكن خليك في حالك ودع الآخرين هم يجابهونهم!” ذلك هو فحوى النصائح الطيبة التي وصلتني من أحباب قلبي وأصدقائي حرصًا منهم على حياتي من بطش تلك القوى الخفية التي لا أحد يقوى على مواجهتها بالحجج الفكرية، بالاتساق مع الفكرة التي ترى: “إذا تشكل عقل المرء على نحو من أنحاء الاعتقادات غير المبرهنة بالأدلة العقلية، فمن الصعب تغييره بالحجج العقلية والحوار المستنير.” أو بحسب نيتشه الذين اعتنقوا أفكارهم بدون براهين: “كيف يمكنك أن تقنعهم بزيفها من خلال البراهين؟ إن الإقناع في سوق الرعاع لا يقوم إلا على نبرات الصوت وحركات الجسد، أما البراهين فهي تثير نفورهم.”

فريدريك نيتشه. وكلما كان المرء غير واثق من الأشياء التي يتحدث عنها، كلما زادت نبرة صوته ارتفاعًا، وكلما افتقد المرء للبراهين والحجج المقنعة، كلما زاد صراخه في تأكيد آراءه ومعتقداته الأيديولوجية، بينما لا يحتاج عالم الرياضيات أو الكيمياء أو الفيزياء إلى الصراخ والأصوات العالية للتعبير عن حقائقه وقوانينه العلمية. فالصمت هو سيد العلم الحقيقي، والضجيج هو سيد الاعتقادات الأيديولوجية الزائفة.

ولكن ليس هناك إلا طريقتان لتوصيل أفكارنا إلى الآخرين: أما أن تجبرهم على قبولها بالتهديد والتخويف والوعد والوعيد، وأما أن نجعلهم يقتنعون بها بقوة البرهان والإقناع المتولد من تفكيرهم الذاتي ومن إرادتهم الحرة بدون جبر أو إكراه.

وبقدر إحساسي بالتقدير والامتنان لذلك الحرص والاهتمام، فقد حفزتني تلك الاستجابة التفاعلية للتفكير في معنى الحكمة العربية الشائعة (أبعد عن الشر وغنّي له!)، إذ تبدو لأول وهلة نصيحة أخلاقية بريئة تدعو إلى الحذر من الشرور والابتعاد عن مواردها، غير أنّها تكشف عن فلسفة سلبية في مواجهة الشر، بل وتساهم في تكريسه وترسيخه في الاجتماع، لاسيما في مجتمعات لا توجد فيها دول قوية عادلة تحمي الناس من بعضهم، وتبيح لهم الاستمتاع بحياتهم المدنية بحرية وسلام وأمان، وبدون أي خوف من أحد، كما هو الحال في الدول التي توفر الحماية الكاملة للمواطنين والمقيمين بقوة القانون والنظام.

في المجتمعات العربية الراهنة لا وجود لدول بالمعنى العلمي للكلمة؛ دولة مدنية قادرة على احتواء الشر وتقنينه كما هو حال الدول المحترمة، وهنا تحضرني عبارة الأمريكي تون: “الدولة ثمرة اتفاقنا على تقنين شرورنا والحكومة حارس بوابتها.” وبحسب سبينوزا: “ليس الغرض الأقصى من الدولة أن تسيطر على الأفراد، ولا أن تكمِّمهم بالمخاوف، ولكن الغاية منها أن تُحرّر كل إنسان من الخوف، حتى يستطيع أن يعيش ويعمل في أمن تام دون أن يضر نفسه أو يؤذي جاره. إنّي أكرّر القول بأنّ غاية الدولة ليست أن تحوّل الكائنات العاقلة إلى حيوانات متوحشة أو آلات، بل إنّ الغرض منها هو أن تُمكّن أجسامهم وعقولهم من العمل في أمن، غايتها أن تهيئ للناس عيشًا يستمتعون فيه بعقول حرة، حتى لا يُنفقوا جهدهم في الكراهية والغضب والكيد والإساءة لبعضهم البعض. إنّ غاية الدولة الحقيقية هي أن تكفل الحرية.”

فما هي مخاطر رسوخ الحكم والأمثال الشعبية في الثقافة العربية الإسلامية كهذا المثل الشائع (أهرب من الشر وغنّي له!)؟ وحينما بحثت وجدته ينتمي إلى سلسلة من الأمثال والحكم المشابهة منها:

من شاف مصيبة غيره هانت عليه مصيبته!

يا دار ما دخلك شر!

اللي ما لك فيه، لا تفكر فيه!

امشي جنب الحيط والحيطان لها أذان!

الباب اللي يجيك منه الريح سدّه واستريح!

ل

ا تكن رأسًا فتُقطع، ولا ذَنَبًا فَتُعاب!

اتغدّى به قبل ما يتعشّى بيك!

لسانك حصانك إن زلت زل!

جانب السلطان واحذر بطشه

لا تعاند من إذا قال فعل!

أنا رب إبلي وللكعبة رب يحميها!

أهرب من الشر وغنّي له!

وغير ذلك من الحكم والأمثال الشعبية الكثير المبثوثة في كل الثقافات المحلية بصيغ وتعابير مختلفة، ولكنها تؤدي الوظيفة ذاتها: الميل إلى الانكفاء الفردي، والابتعاد عن الشأن العام، واعتبار السلامة في تجنّب الصدام أو المسؤولية الخلاص الفردي؛ تلك الفكرة الراسخة في الثقافة العربية الإسلامية ربما لها علاقة بالبيئة الصحراوية للمجتمعات البدوية، إذ ظلت متناسلة من الزمن الجاهلي، حينما كان الناس يبحثون عن أرزاقهم بظلال سيوفهم وبرعي إبلهم وبوشهم.

تلك الفكرة الناتجة من طبيعة الحياة الصحراوية المتذرّرة مثل قبرات رمل الصحراء المتطاير في مهب العاصفة. فإذا حاولنا تفكيك المثل الشائع “أبعد عن الشر وغنّي له!”، ما الذي سوف نجده؟ إن تفكيك المثل الشعبي يضعنا أمام مفارقة ثقافية: كيف يتحول المثل من نصيحة للسلامة إلى دعوة ضمنية للتطبيع مع الشر؟ إنه مرآة لثقافة الخوف التي تحتاج إلى مراجعة نقدية، كي ننتقل من الغناء للشر إلى مقاومته، ومن الابتعاد عنه إلى العمل على تجاوزه. فهذا المثل العربي الشائع يكشف عن ذهنية الخوف الجمعي الراسخة في الثقافة التقليدية، إذ يُنظر إلى الشر لا كظاهرة تاريخية اجتماعية يمكن مواجهتها أو تفكيكها، بل كقوة غامضة متعالية لا سبيل إلا المداراة معها.

النقد لا يعني إنكار الحكمة النسبية الكامنة في التأني والحذر. لكن ما نحتاجه هو إعادة بناء أمثال مضادة تحضّ على مقاومة الشر لا على الغناء له. فالمجتمع الذي يغنّي للشر ينتهي إلى تقديسه، أما المجتمع الذي يسمي الشر باسمه ويواجهه، فهو يتمكّن من تقنينه والتحرر من تهديده الدائم.

يمكننا قراءة هذا المثل الشعبي العربي الشائع بوصفه أحد أدوات إعادة إنتاج الخوف والخضوع. فهو يربي الناس على التطبيع مع القبح والخطر وإضفاء جمال زائف عليه عبر “الغناء”، بذلك يتحول الشر من قوة استثنائية إلى جزء مألوف من الحياة اليومية، إذ لا يكتفي بتوجيه الأفراد للحذر من مواجهة الشرور والأشرار، بل يطالبهم بالغناء له وهم يشاهدونه يفتك بحياة أشباههم من بني جنسهم، بترديد مثل آخر: “من شاهد مصيبة غيره هانت عليه مصيبته!”، تلك الحكمة الشديدة الخطورة فيما تخفيه من قاع المعنى.

إذ تبدو للوهلة الأولى وكأنها تعبير عن مواساة الذات لذاتها، فمقارنة المصائب تجعل المرء يخفف من ثقل مأساته، إذ يرى أن هناك من هو أشد بلاءً منه. ذلك المعنى السطحي الذي يوحي بالتصبّر، يخفي بنية نفسية وثقافية سلبية: تسلي النفس بمعاناة الآخر بدل البحث عن حل جذري لتجاوزها. وهكذا يمكن القول إن الحكم والأمثال الشعبية العربية المبثوثة في مختلفة المجتمعات المحلية بصيغ وتعابير مختلفة تكشف عن ثقافة تقليدية تستبطن القهر في مجتمع يعيش بيئة مليئة بالمصائب والأزمات والشرور، فلا يجد الناس وسيلة لمواجهتها، بل يلجأون للهرب منها والغناء لها والتأسي بالمقارنات الحفيرة. وبدلاً من تحويل الوعي الجمعي إلى أداة تضامن لتجاوز المآسي، يتم توجيهه نحو استهلاك مصائب الآخرين كوسيلة “تخفيفية”، هنا تضيع روح الفعل الجماعي، لأن الفرد لا يسعى لتغيير وضعه ولا لمساعدة الآخرين، بل يكتفي بالقول: “طالما هناك من هو أسوأ حالًا، فسأرضى بقدري.” وهكذا يمكن القول إن تصوير الشر كقدر محتوم يلغي جوهر الفعل الإنساني التضامني في مواجهته، فالشر في حقيقته ليس قوة ميتافيزيقية مفروضة، بل نتاج علاقات بشرية: ظلم، استبداد، جهل، قمع، طمع… كلها ظواهر يمكن مقاومتها وتغييرها.

غير أن المثل، بإلباسه الشر لبوس “القدر الكلي”، يعطل إمكان الوعي النقدي، ويحوّل الشر إلى جزء من النظام الطبيعي للحياة التي تستدعي التكيف لا المقاومة. فالمثل أعلاه لا يكتفي بتقديم الشر كقدر محتوم، بل يطلب من الفرد أن يزيّنه بالغناء، وهذا في قاع المعنى: التواطؤ معه. فبدلاً من الرفض أو النقد أو المقاومة، يترسّخ منطق “دع الشر يمرّ بسلام”. هذه الاستراتيجية، وإن بدت براغماتية للبقاء، تُكرّس في المدى البعيد ثقافة الخوف والخضوع والبحث عن الخلاص الفردي.

إذ نجد أشخاصًا ممن كنا نظنهم أكثر حلمًا وحكمة ينساقون مع وهم ثقافة البحث عن المنقذ الخارق؛ زعيم أو بطل أو شيخ دين أو بلطجي، ورغم أهمية الأشخاص ودورهم الفاعل في التاريخ، إلا أنهم محدودو القدرات والطاقة بدون مؤسسات فاعلة، إذ مهما كانت عبقرية الأشخاص وكفاءتهم وإخلاصهم وجهودهم، فإنهم بدون وجود مؤسسات فاعلة وكفوءة، كأنما يحرثون البحر! الأشخاص يأتون ويذهبون، أما المؤسسات فهي وحدها التي يمكنها أن تستمر وتدوم إذا وُجد من يتعهدها ويصون!

وهكذا بقيت الدول التي تحكمها المؤسسات البيروقراطية الحديثة مزدهرة منذ مئات السنين في العالم الحديث، بينما كل النظم التي تمحورت حول الأشخاص، منذورة بالخراب والزوال بزوالهم الحتمي! أنا أحترم الأشخاص، ولكن لا أثق بقدرتهم على فعل أي شيء جدير بالقيمة والاعتبار إذا كانوا لا يمتلكون مؤسسات مبنية على أسس قانونية عقلانية سليمة!

وفي الثورات قل لي ما شعارك أقول لك من أنت، وفي السياسة قل لي ما هي مؤسستك أقول لك من أنت! والشعوب حالة ثورية عائمة، وعلى النخب الفاعلة تقع مسؤولية تحويلها إلى حالة مؤسسية مستقرة، ونحن الذي نقوم بتشكيل مؤسساتنا باتباع جملة من القيم والإجراءات، ثم تقوم هي بتشكيلنا. نكرر: الأشخاص يأتون ويذهبون، أما المؤسسات فهي وحدها التي يمكن أن تدوم إذا وُجد من يتعهدها بالحفظ والحماية والصون. فكيف ما كانت مؤسساتنا، نكون! وفي عدم وجودها لا معنى للكلام واللف والدوران، ودمتم بخير وسلام!


Google Newsstand تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news


تابعنا على يوتيوب

تابعنا على تويتر

تابعنا على تيليجرام

تابعنا على فيسبوك

انقلاب عسكري .. وزير الدفاع بحكومة الشرعية يتعرض لطعنة غادرة

صوت العاصمة | 779 قراءة 

العد التنازلي بدأ: خبير اقتصادي يحذر من انهيار وشيك في قطاع الصرافة

المرصد برس | 461 قراءة 

عروس يمنية تُصارح زوجها بهذا الامر .. والنتيجة: طلاق بعد 7 أيام فقط

نيوز لاين | 440 قراءة 

استعدادات عسكرية ضخمة في المنطقة العسكرية الاولى ووزير الدفاع في حضرموت

الحكمة نت | 363 قراءة 

هجوم إستهدف العاصمة صنعاء ووزارة الدفاع الأمريكية تنفي علاقتها بالهجوم مؤكدة أن دور بوارجها إقتصر على هذه المهمة فقط

الحدث اليوم | 329 قراءة 

مصدر في مكتب رئاسة الجمهورية يكشف حقيقة الخلافات بين رئيس الحكومة والعليمي

نافذة اليمن | 311 قراءة 

صحفية يمنية: ظهور نجل الرئيس السابق صالح أربك حسابات الحوثي وارعب تواجدهم بصنعاء.. وهذا مايحدث ؟!

الميثاق نيوز | 263 قراءة 

عاجل:إسرائيل تحضر لضربة عسكرية ضد الحو ثيين

كريتر سكاي | 235 قراءة 

عاجل:موجة أمطار غزيرة بهذه المحافظة وتحذيرات من سيول جارفة

كريتر سكاي | 233 قراءة 

العليمي يوافق على تشكيل لجنة لإيقاف "كشوفات الإعاشة".. إنفاق يتجاوز 194 مليون دولار سنوياً

يني يمن | 222 قراءة