نقصد بالأسس الفلسفية تلك المعتقدات والأفكار والتصورات الميتافيزيقية الكلية التي يعتنقها الناس شعوريًا ولا شعوريًا عن أنفسهم وعن الآخرين وعن العالم والحياة والموت والصحة والمرض، بوصفها (بارادايمات) مفضلة يسلمون بها ويعدونها بديهيات ومرجعيات لا تقبل الجدل والتشكيك، وتكون بذلك نماذج إرشادية للنظر والسلوك والعمل والعلاقات، تشبه المعتقدات والقناعات الأيديولوجية. وهكذا يمكن النظر إلى الطب الحديث بوصفه خطابًا ثقافيًا وممارسة اجتماعية “يستبطن نسقًا من الأفكار والتصورات والعلاقات بين الإنسان وبين ما يحيط به من كون وكائنات، إنه باختصار يستبطن رؤية كلية معينة للعالم، وبناءً على هذه الرؤية الكلية للعالم تتحدد نوعية الممارسة الطبية المشروعة”. وهذا التحديد يتوافق مع تعريف الثقافة بوصفها ذلك الكل المركب من التفضيلات أو “التحيزات القيمية والعلاقات الاجتماعية وأساليب الحياة وأنماطها المتبعة”.
انطلاقًا من قانون الحياة الجوهري (الحفاظ على البقاء ومقاومة الفناء) حلم الإنسان منذ أقدم العصور بالعثور على وصفة سحرية للخلود وديمومة الشباب والصحة والعافية والقوة، فيما عرف بـ(إكسير الحياة) أو حجر الفلاسفة. وهذا ما حملته لنا أقدم أساطير حضارات بلاد الرافدين وحضارة مصر القديمة. ورغم التاريخ الطويل لحياة الإنسان على كوكب الأرض وصراعه مع الأوبئة والأمراض والموت المبكر، إلا أنه ظل يجهل الأسباب المحتملة للصحة والمرض. وتكشف الأنثروبولوجيا التقليدية أن التوقف من أجل تعيين الكائن الإنساني في ماهيته قد أنساها مسألة كينونته، إذ اعتبرت هذه الكينونة بمثابة تحصيل حاصل؛ فالإنسان وفقًا للتصور التقليدي ينقسم في كينونته إلى شطرين لا يلتقيان (روح وجسد): جسد ينتمي إلى (عالم ما تحت فلك القمر)، عالم دنيوي حسي زائل يعتريه الكون والفساد، وروح أو نفس أو عقل ينتمي إلى (عالم ما فوق فلك القمر)، عالم متعالٍ إلهي أزلي خالد ثابت لا يعتريه التغيير والكون والفساد. هذا (البارادايم) أو التصور اللاهوتي الميتافيزيقي الكلي للإنسان المشطور هو الذي ساد الفكر ما قبل الحديث، إذ “اعتُبر الجسد في مختلف التصورات الميتافيزيقية موطنًا للشرور وبؤرة للدنس والرذيلة، لهذا تمت معاملته باحتقار كبير، وتم السعي فيما بعد إلى ستر عيوبه، ولا زال الحديث عن مفهوم العورة لصيقًا به في كثير من الثقافات المجتمعية”. ولما كانت الروح ذات طبيعة غير حسية وغير متاح مشاهدتها واختبارها في الواقع، ظلت مثار دهشة الإنسان وحيرته، وحظيت باهتمام العلوم والأديان والفلسفات، في حين أن الجسد لم يحظَ إلا بالقليل القليل من الاهتمام والقيمة والأهمية. “إذا لم يكن في الإمكان التعرف على شيء بصورة واضحة فلن يحدث آنذاك إلا أحد أمرين: إما ألا نصل أبدًا إلى المعرفة، وإما ألا نصل إليها إلا بعد الموت”. وهنا تتجلى خطورة الاعتقادات والتصورات والآراء والأوهام والعادات الثقافية التي تترسخ في حياة الناس ويتوارثونها جيلًا بعد جيل كأنماط ونماذج للسلوك أو “هابيتوسات” حسب عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو. يقول عالم النفس التربوي الأمريكي “أرثر كوفر” في كتابه “خرافات في التربية”: “يسلك الناس وفقًا لما يعتقدون، وحينما تكون معتقداتنا صحيحة وصادقة، نستطيع أن نحدث قدرًا كبيرًا من التقدم. أما إذا كانت معتقداتنا خاطئة فإنها تعوق هذا التقدم وتعرقل صيرورته، وتعرض الحياة الإنسانية ذاتها إلى الخطر”. ولقد ذهب كل جيل ضحية لمعتقداته ولخرافاته وأوهامه وأساطيره؛ فحينما اعتقدت الحضارات القديمة أن الروح أو العقل هي الجوهر الخالد في الإنسان الذي يبقى بعد موت الجسد الفاني الفاسد الملوث بالآثم والخطيئة والرغبة والشهوة والطمع، كان من شأن هذا الاعتقاد أن عمّق الهوة بين الإنسان وجسده، بين روح الإنسان وجسمه.
وحينما اعتقد الصينيون القدامى أن الكون ينقسم إلى “الين” و”اليانج”، أي الأنوثة والذكورة، كان “اليانج” يرمز إلى مبدأ الذكورة والعنصر الإيجابي الفعال المنتج السماوي وعنصر الضوء والحرارة والروح والحياة، والـ”يين” يرمز إلى الأنوثة، العنصر الحسي الأرضي السلبي المنفعل، عنصر الظلمة والبرودة والعجز والموت. وحينما اعتقد قدماء الهنود أن الجسد وشهواته الحسية هو مصدر كل الآلام والخطايا، ازدهرت لديهم ثقافة (النيرفانا) البوذية الجاينية، بمعنى بلوغ الروح أقصى حالات الصحة والسعادة بعد انطفاء الرغبات الجسدية. وحينما اعتقد أهل اليونان أن العقل يحكم الكون وأنه من عالم المثل، وأن الرجل هو الكائن العاقل الوحيد، وأن المرأة كائن حسي غير عاقل، لم يكتفوا بتبرير النظرة الدونية للمرأة والعبيد وكل ما يتصل بالجسدية العضوية، بل ذهبوا إلى تأسيس منظومة فلسفية ثقافية متكاملة لشرعنة هذا الاعتقاد والنظر إليه بوصفه حقيقة بديهية ومسلمة طبيعية لا تحتمل الشك والتساؤل. ومن هذه الأسطورة الأفلاطونية التي تحتقر الجسد تناسلت فيما بعد مختلف المدارس والاتجاهات الفلسفية واللاهوتية الأبيقورية والرواقية والمسيحية والأفلوطينية والغنوصية والإسلامية التي نظرت إلى الإنسان وحياته وصحته من زاوية احتقار الجسد وتعظيم الروح، بما يعني إيلاء كل الاهتمام لعالم الموت وما بعد الموت والخلود السرمدي وإهمال عالم الحياة الدنيوي السريع الزوال.
تلك النظرة العامة هي التي هيمنت في فضاء الثقافة والفكر الإنساني حتى مطلع العصور الحديثة. وهكذا يتضح أن سلوك الناس وتفاعلاتهم وعاداتهم وتفضيلاتهم وأفعالهم وردود أفعالهم ومؤسساتهم ونظمهم وتقاليدهم لا يمكن تفسيرها وفهمها من خلال تمظهراتها المباشرة، بل لا بد من الذهاب إلى ما وراءها، من المنطلقات الاعتقادية الأيديولوجية والفكرية، أو بكلمة واحدة (الثقافة السائدة). إذ إن اعتقادات الناس في أي زمان ومكان ليست مجرد أفكار أو تصورات معنوية وكلمات ومفاهيم معرفية مجردة، بل هي نتاج قوى وسياقات اجتماعية وسياسية وثقافية نشأت وترسخت عبر مسار طويل من الممارسات والخبرات والتجارب في أنماط سلوك وعادات وتقاليد، أو على حسب بورديو (هابيتوسات)، بمعنى عادة أو طبع أو نسق الاستعدادات والتصورات اللاشعورية الثقافية الأنثروبولوجية التي تبقى بعد نسيان كل شيء.
فكيف كانت النظرة الحديثة للإنسان وحياته وصحته؟ ولم يكن الطب في أغلب الثقافات عبارة عن ممارسة علمية منضبطة، ولم يكن، كما يكتب فوكو في “الانهمام بالذات”، مفهومًا فقط كتقنية تدخلية تستعين، في الحالات المرضية، بالعلاجات والعمليات الجراحية، بل كان شبكة من المعارف المختلفة التي تشمل علوم الجسد والنفس والفلك والأخلاق والنباتات والفلسفة والمعارف الدينية والسحر والكيمياء وحالات البيئة (برودة، حرارة..) وحتى الهندسة والخطابة.
لقد لخص ميشيل فوكو وضع الإنسان في العصور الحديثة بعبارة ذات دلالة عميقة حينما كتب إن الإنسان اكتشاف حديث العهد، إذ إنه لأول مرة في التاريخ يجد نفسه إزاء قوى التناهي والاشتباك معها كقوى خارجية عن ذاته الإنسانية المتناهية، إذ ذاك كان على قوى الإنسان أن تتصدى للتناهي خارج ذاتها، ومن ثم لتجعل منه في مرحلة ثانية تناهيها هي، فتعيه حتمًا كمتاه خاص بها. وحينئذ، كما يقول فوكو، يركب معها الشكل – الإنسان (وليس الشكل – الله) وتلك بداية الإنسان.
أن مسألة نمو وازدهار خطاب الطب والصحة ليست مسألة علمية فنية خاصة بالمجال الصحي، بل تتعين في تلك المجالات التاريخية الحضارية والمدنية والثقافية الواقعة خارج النسق الطبي، حيث يتأمل البشر طبيعة الكون والإنسان بأعمق معانيها وأشدها غموضًا، وحيث يخلق الخيال الإنساني المؤسسات التي تسمح للأفراد بالاستمتاع على الدوام بالفضاءات المحايدة أو الأطر الميتافيزيقية والثقافية الأوسع التي تجري ضمنها أنماط العلاقات والممارسات والخطابات التي تتشكل في سياقها تصورات الإنسان عن ذاته وعن عالمه وعن الآخرين تشكيلاً عميقًا. وهذا هو معنى الثقافة؛ بعدها منظومة كلية مركبة من كل ما نفكر فيه أو نقوم بعمله أو نتملكه أو نفضله كأعضاء في المجتمع، فالثقافة السائدة في حضارة ما بوصفها نموذجًا إرشاديًا (بارادايم) إما أنها تدعم قوى الإنسان العقلية والإبداعية أو تحد منها وتضيق فرص نموها وازدهارها. و”كلمة ثقافة تطلق مجازًا على الجهد المبذول في سبيل تحسين العلوم والفنون وتنمية القدرات الفكرية ومواهب العقل والذكاء”.
وكلما كانت قيمة الإنسان ومكانته عالية في أي حضارة من الحضارات كلما تحسنت ظروفه المعيشية وارتفعت كرامته، وهذا هو ما أفضت إليه فلسفة الحداثة الأوروبية التي جعلت من الإنسان والحياة الإنسان غاية كل فعل وسلوك.
وقد تمثلت تلك الأسس الفلسفية التي انطلق منها مشروع الحداثة الغربية بالآتي:
أولًا: استعادة ثقة الإنسان بذاته وقواه الحسية والعقلية، الجسدية والروحية، وهدم الجسور الميتافيزيقية التي أقامتها الفلسفة اليونانية بين الروح والجسد وبين الأسطورة والعلم، بين المنطق والواقع، وبين الطبيعة والفن. لقد نظرت النهضة إلى الإنسان وقواه بعيون إنسانية، إذ جعلت “إنسانوية” النهضة من الإنسان غاية المعرفة وأداتها في آن واحد. يقول فيلسوف النهضة (بيك ميراندولا 1463-1494م) في رسالة “كرامة الإنسان”:
“أيه يا آدام… العالم لم يُخلق من أجل الإنسان حسب، ولكنه مصنوع من لحمه ودمه، ذلك الكائن الذي وهبته الآلهة إرادة حرة والذي يحمل في ذاته بذور الحياة التي لا تحصى. إذا ما استعاد كرامته، لا يبقى ثمة ضياع، ولا يبق ثمة قلق، الشياطين التي كان يخافها إنسان العصور الوسطى ألقت بنفسها في الجحيم ومعها الصليب الذي كان يبدو مكرسًا لحمايتها، العالم أصبح من جديد فرح الإنسان وحلمه وطموحه”.
على هذا النحو أخذت تعود ثقة الإنسان بذاته وبعالمه، وأخذ الإنسان يثق بقدرته على التقدم والتطور، استعاد الإنسان ذاته وعظمته حسب ياكوب بوهم (1575-1624م):
“الإنسان ذلك الكائن العظيم الذي ترقد السماء والأرض وكل الكائنات والله نفسه في أعماقه”.
ثانيًا: الاعتراف بأن الحياة على هذا الكوكب جديرة أن تُعاش من حيث هي قيمة مستقلة تستحق الاهتمام والعناية، بمعزل عن أي مخاوف أو آمال مرتبطة بعالم الموت والخلود فيما وراء القبر. لقد تأجلت صرخة سقراط “اعرف نفسك” إلى العصر الراهن، ذلك لأن الهوام الفلسفي والعلمي الذي يشكل روح النهضة الزاخرة كان يحوم حول الطبيعة – معرفة قوانينها ونظام حركتها من أجل الانتصار عليها، كل ذلك من أجل سعادة الإنسان وارتقاءه.
هكذا حدد علماء وفلاسفة عصر النهضة الذين أُطلق عليهم (الإنسانيون) أمثال نقولا دوكوزا، ليوناردو دافنشي، كيبلر، بودان، غاليلي، كامبانيلا، بوهم، ميراندولا، وبيكون، حددوا الإنسان غاية للمعرفة (على الضد من الموقف السابق للفكر الوسيط الذي كان يذوب الإنسان في المتعالي الخالق المطلق). لقد كانت عبقرية فكر النهضة تكمن في نفاذ بصيرته للمشكلة التي كانت تحول دون سعادة الإنسان وكرامته، والمتمثلة في عدم معرفة قوانين الطبيعة وحركة قواها الغاشمة، فمن أجل الإنسان الذي وضع في وسط العالم، ذلك العالم الذي لم يُخلق من أجل الإنسان فحسب، بل المصدوع من دمه ولحمه – ذلك الكائن الذي وهبته الآلهة إرادة حرة والذي يحمل في ذاته بذور الحياة التي لا تحصى (حسب الفيلسوف النهضوي بيك ميراندولا 1493 – 1494م) من أجل ذلك الكائن العظيم “الإنسان” – الذي ترقد السماء والأرض وكل الكائنات، والله نفسه في قاعه (حسب ياكوب بوهم 1575م – 1624م). من أجل إقامة مملكة البشر على الأرض كان “يجب التمكن من إرغام الطبيعة وتسخيرها في خدمة مملكة الإنسان… وذلك من خلال معرفة قوانينها”. يقول فرانسيس بيكون:
“إن تنتصر على الطبيعة بأن نطيعها”.
هكذا انطلقت سفينة النهضة حاملة الإنسان على ظهرها، تمامًا مثلما كانت تبحر سفينة المجانين في ذلك العصر صوب الآفاق البعيدة في أقاصي البحار للبحث عن عقولهم كما كتب ميشيل فوكو في بحثه (تاريخ الجنون في أوروبا). وعلى هذا الدرب سارت الفلسفة العقلانية الحديثة من ديكارت حتى هيجل متخذة من الإنسان هدفًا وغاية للمعرفة وموضوعًا جوهريًا لها.
ثالثًا: الانفتاح على الجسد الإنساني والطبيعة وكسر قيود التحريم اللاهوتية التي كانت تحرم التصوير والرسم. إذ شهدت الحياة الطبية منذ بداية النهضة حركة صاعدة في نموها، ويعد كتاب أندريه فيزاليوس (1514-1564م) المؤسس الحقيقي لعلم التشريح الحديث، يعتبره البعض مكتشف الجسد الإنساني في كتابه المهم (بنية جسم الإنسان) 1543م في جامعة بادوا الإيطالية، بل ومؤسس الطب الحديث. وفي ذات السياق تابع تلاميذ فيزاليوس البحث في بنية الجسد الإنساني وتوالت الاكتشافات الطبية الجديدة؛ إذ اكتشف فالوبيوس قنوات الرحم التي تصله بالمبيضين وسجل هذا الاكتشاف باسمه قنوات (فالوب)، وبالمثل اكتشف يوستاكيوس القناة التي تصل البلعوم بالأذن الوسطى. وكتب الطبيب الإيطالي قصيدة أسمها (سيفيلوس) تروي قصة راعي أسطوري أغضب الإله فعاقبته بأن أصيب بداء الزهري، التي وصفتها القصيدة التي ذاع صيتها بما جعلها توحد المصطلح الطبي للمرض (سفلس) بعد أن كان يحمل أكثر من الأسماء والصفات التي تعد بالمئات.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news