بين التهاون والادّعاء بالإنجاز: ماذا لو كان محافظ البنك المركزي اليمني هو نفسه من سمح بانهيار الريال؟
في عالم الاقتصاد، يُقاس أداء المسؤولين ليس بما يعلنونه من إجراءات، بل بما يتحقق فعليًا على الأرض من نتائج، وتُقرأ أفعالهم في سياق زمني متصل لا مجزأ. فماذا لو علمنا أن المحافظ الذي يدّعي اليوم أنه أنقذ الريال اليمني من الانهيار هو نفسه من تركه ينهار طوال أربع سنوات كاملة دون أن يحرك ساكنًا؟
منذ عام 2021 وحتى النصف الأول من 2025، هوى سعر صرف الريال اليمني أمام الدولار حتى تجاوز حاجز 2900 ريال، في واحدة من أسوأ موجات التدهور التي عصفت بالعملة الوطنية. طوال تلك السنوات، ظل البنك المركزي تحت إدارة محافظ واحد، لم يتخذ إجراءات جادة تذكر، بل ظل يُرجع أسباب التدهور إلى شماعات جاهزة: توقف تصدير النفط، غياب الدعم الخارجي، ورفض توريد الإيرادات العامة إلى البنك المركزي.
لكن المفارقة الصادمة تأتي في منتصف عام 2025، عندما شعر المحافظ نفسه بتهديد جدي لمنصبه، فتحرّك فجأة، واتخذ خطوات لضبط السوق، وبدأ بالتنسيق مع المضاربين الكبار، ليُخفض سعر الصرف إلى نحو 2500 أو حتى 2000 ريال للدولار، دون أن تتغير المعطيات الاقتصادية التي ظل يتذرع بها لعشرات الأشهر! لا صادرات نفطية عادت، ولا دعم سعودي أُفرج عنه، ولا حتى الإيرادات العامة دخلت حساب الحكومة. فما الذي تغيّر؟
الحقيقة المؤلمة أن ما تغيّر ليس الاقتصاد، بل موقف المحافظ من موقعه. تحسّن السعر فجأة، لأن من بيدهم أدوات السوق قرروا التنسيق مع البنك المركزي – لا حبًا في الوطن – بل لأن بقاء المحافظ كان في خطر. وإذا كانت هذه النتيجة قد تحققت فجأة، فإنها لا تُحسب له كإنجاز، بل تُدين كل صمته السابق، وتُسقط كل أعذاره التي ظل يرددها سنوات.
بل إن التحسن الطفيف لسعر العملة دون أي أسباب اقتصادية حقيقية، هو في ذاته دليل إدانة إضافي لإدارة البنك المركزي، وربما يُدينها أكثر من الانهيار الكبير نفسه. لأن هذا التغير المفاجئ يثبت أن المشكلة لم تكن أبدًا في العوامل الخارجية كما ادّعوا، بل في غياب الإرادة والنية السياسية، بل وربما التواطؤ مع قوى السوق لتعظيم المكاسب الخاصة على حساب معيشة ملايين اليمنيين.
اخبار التغيير برس
ما يحصل اليوم يؤكد أن إدارة البنك المركزي لم تكن على الهامش، بل كانت جزءًا أساسيًا من عمليات المضاربة التي تسببت في الانهيار الكبير للعملة، سواء لأغراض التربح الشخصي، أو لتصفية حسابات سياسية وشخصية، أو حتى لدعم مشاريع عصبويّة، مناطقيّة، حزبية، أو سلاليّة، على حساب الاستقرار الاقتصادي والمالي الوطني.
السؤال الجوهري هنا: ألا يستحق هذا الأداء الضعيف طوال أربع سنوات المساءلة، بل المحاسبة الصارمة؟
بل ألا يستدعي تحسّن السعر الآن، وبالطريقة التي جرت، إدخال اسم هذا المحافظ في السجل الأسود للاقتصاد اليمني بوصفه من ترك العملة تنهار دون تدخل، حتى أصبح السوق رهينة لمضاربين وهوامير يتحكمون في قوت الناس؟
بل إن الخطورة لا تقف هنا. فالسوق اليوم، ورغم التوجيهات الرسمية، يشهد تفاوتًا حادًا في الأسعار، وكبار الصرافين يرفضون البيع بسعر البنك المركزي. وهذا يعني أن التخفيض الحالي وهمي، يُطبّق على الورق، بينما تتشكل سوق سوداء جديدة ستكون نتيجتها فوضى أكبر، وضحيتها الأولى المواطن، والخاسر الأكبر الاقتصاد.
الخلاصة أن من ترك الريال ينهار لسنوات، ثم تحرّك فقط عندما شعر بالخطر على موقعه، لا يُكافأ ولا يُشاد به، بل يجب أن يُساءل ويُحاسب ويُحاكم. فالوطن ليس حقل تجارب، والاقتصاد ليس رهينة لمناورات سياسية أو شخصية. وإذا أراد اليمن بناء مؤسسات قوية، فإن البداية يجب أن تكون من محاسبة من تسبب في تآكل ثقة الناس بالدولة والبنك المركزي، وليس الاكتفاء بتزيين صورته بحركة متأخرة تُخفي سنوات من التقصير والتهاون.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news