أصدر الشاعر محمد عبدالوهاب الشيباني أربع مجموعات شعرية، وحصلت منه على نسخة من مجموعته الثانية «أوسع من شارع أضيق من جينز» ولم أوفق للكتابة عنها. لا لشيء سوى أنني انتظرت منه بقية المجموعات. ولقد أحببت في محمد عبدالوهاب الشيباني كتاباته النقدية التي تماهت تمامًا مع النقد العربي العميق، التي كان يوالي نشرها في نافذته الشهيرة «أغلفه ومتون» التي كان يحررها في صحيفة الثقافية. وعجبت منه كيف أنه لم يجمعها في كتاب؛ كي تكون عاملًا مساعدًا لقارئ نصوصه الشعرية، التي تمثل نتاجًا لتلك الثقافة وخلفية حقيقية لدراسة شعره، ولأنها لا تقل أهمية عن تلك الكتابات القادمة من أنحاء مختلفة من العالم.
في مجموعته الثالثة التي حملت عنوان «مرقص.. الليل محمل بحصته الثخينة» التي صدرت عن وزارة الثقافة، نندهش من حجم الحرية التي أتاحته له الوزارة ذاتها التي صادرت قبل ذلك رواية وجدي الأهدل «قوارب جبلية»، وهو ما يتيح لنا حرية الكتابة عن هذه المجموعة التي تميزت بموضوعها الجديد وبلغتها البسيطة وحساسية مفرداتها، وتراكيبها الإنسانية وملامستها لواقع مسكوت عنه بذكاء فكري وشعري.
وبقدر ما اختلفت مع هذا النوع من الكتابة، إلا أني وجدت نفسي منبهرًا من عمق هذه التجربة الجديدة للشيباني، ومن الحرية إلى توافرت له لنشرها، متمنّيًا لهذه الحرية أن تستمر، ولنا أن نختلف حولها أو نتفق. وبدت المجموعة كما لو أنها نص شعري واحد، وإن تعمَّد صاحبها تجزئتها وتفصيلها كما لو أنها سير أشخاص أو تفاصيل حياة منفصلة بعضها عن بعض بلحظات، وإن كان يجمع بينها مسرح
وتجربة وعنوان.
ويبدأ الشيباني بتقويل ثابت ما يريد أن يقوله هو من النص الأول «اليعسوب» قبل أربعين عامًا في عودة تاريخية واجتماعية وسياسية وموروث من الجهل المتراكم الذي جعل ثابتًا يتعلم القراءة والكتابة (فك الخط): «جاء كأمي/ وعمل في مطبعة مهمتها تنوير الناس/ وتثويرهم على المحثل/ من حروف الرصاص/ ومن المنشورات التي نسخها على (الأوفست)/ لم يتزوج/ غير أنه عرفَ عن النساء كل ما يمكن/ أن توصّفه خبرة (دنجوان) على عتبة السبعيين/ والعديد من صديقاته/ لم يزلن يقمن بواجباته كرجل وحيد».
جوانب أكثر دكانة
هذا النوع من الكتابة ينتمي إلى ما يعرف باصطلاح مدرسة «الواقعية القذرة» التي هي في أبسط تعريفاتها ( الكتابة التي تتناول الجوانب الأكثر دكانة أو أكثر دنيوية للحياة العادية بلغة غير مزخرفة، وتتميز باقتصاد الكلمات وتركيز على الوصف السطحي)، وقد جعلها الشيباني قاعدة يبني عليها مجموعته الشعرية التي جمعت بين فن القصيدة وفن القصة، وهي الواقعية التي تأثر بها شعراء أوربا من شعراء أميركا اللاتينية، ويوظفها الشيباني بامتياز على واقعيتنا الأقذر منها؛ لأن ثابتًا في هذا النص هو أفضل بكثير مما سيأتي:
«شهد صعود نجمة اليسار الملتهبة/ التي أحرقت (الشيادر) وأحلام التملك/ وأبصر أيضًا/ انطفاءها/ أفلت بالمصادفة من ميتتين/ محققتين في حروب الأخوة/ وفي كل مرة كان يحمل صندوقه الخشبي ويتنقل بين ثلاثة أماكن للأدباء».
بهذا الإيجاز وبهذا الاختزال المتفوق للغة، وبهذه البساطة اللامتناهية التي تحسب له لا عليه، يرسم الشاعر لوحة معمارية لهذا النوع من الواقعية في اليمن، فاتحًا المجال أمام ذهن القارئ ليتخيل ثلاثة أماكن للأدباء، مع حصة ثقيلة لليل يحملها.
«حين تداهمه فكرة الموت/ لا يفكر بمكان دفنه/ ومن سيرت معاشه التقاعدي/ وأشياءه التي في الصندوق/ ولا يفكر بـ (بصيرة ) المسكن الذي/ يبنى بالاستقطاع من مشاهرته/ يفكر فقط/ بوجوده في عقد تأجير (فندق)/ يفرض عليه أن يظل/ كل ليلة – ومن سقيفة خشبية/ يصعد إليها بـ(سلم) متآكل –/ مفتحًا حواسه على/ هوس خليط/ من النساء والرجال/ منحشرین/في علبة ليل».
راسمًا لوحة إنسانية بديعة لا يخفى فيها على أحد؛ التناقض الذى نعيشه، وكيف حولنا الأعمال الخيرة إلى أعمال (قذرة).
ويظل الشاعر الشيباني يربط نصًّا آخر في متوالية نفسية وخصوصية فائقة، لشريحة اجتماعية ازدهرت وتنوعت فنونها الاجتماعية والنفسية، واضعًا مبضع الجراح الماهر على أدق التفاصيل النفسية لهذه الشخصيات. نصوص الشيباني، توحي بعمق وقوة التجربة وإلى امتلاك الشاعر للخبرة في قراءة الواقع المهمل، الذي لا يلتفت إليه شاعر أو قاص، وبخاصة في مجتمع مغلق على كفن وحرية لا تسمح بذلك، وإن حدثت فهي معجزه ثقافية بكل ما تحمل الكلمة.
تقنية السرد من الخارج
ويمضي الشاعر في متوالية اجتماعية لرصد كل الأحداث التي تقع في تلك العلبة، التي تطورت مع كل حالة فشل اجتماعي أو سياسي أو اقتصادي يمر به الوطن. واستخدم الشاعر أسلوب وتقنية السرد من الخارج، حتى لا يتورط في أحداث يصعب الجزم بها وإن كانت وقائع اجتماعية حقيقية.
ولسنا في حاجة إلى استعراض النصوص التي تنوعت تقنياتها ولغتها وصورها على طول المجموعة؛ لذلك نشير إلى توالدها من رحم بعضها، ابتداء من العلبة إلى (ناردين.. الملكة بما تفعل) و(ليال – الغازية بشعرها الأصفر وأسنانها المذهبية) في إشارة بارعة إلى الرعب والقبح الفزع و(أم ضياء وحصتها من اللذة البعيدة) و(البنات)- حيث الأصل والأرومة ليست في الكتابة وحدها، بل امتدت حتى إلى عالم بنات الليل) و(خليل- البودي جارد بخطواته الهرقلية) و(بوسي- قطرات العرق تلتمع مثل الفصوص) و(فطوم- راقصة مبتدئة ملطخة بالنقوش) و(صغيرات)، و(أحلام)، و(رامي بائع الفل)، و(هديل) و(سالم) و(الكابتن س) و(الزوج) و(الحسينية حيث حسابات الأنثى لا تتكرر لمرتين). وفي آخر قصيدة وهي بعنوان «هؤلاء»، وتعد أطول قصيدة في المجموعة، أفرد الشاعر مقاطعها الكثيرة لضحايا هذه الواقعية من الأثرياء العرب والمجانين، وهذاءات السكارى وقدوم رمضان وسقوط بغداد حين تبخر جيشها.
في مجموعته الشعرية هذه، نجح الشاعر إلى حد كبير في وضع الصورة الكاملة للواقعية القذرة بكل تفاصيلها وشخوصها وعناصرها، ومن ضمن ذلك الجانب الوجداني. ولو لم يكن الشيباني شاعرًا لكان روائيًّا، وإن كان قد جعلنا بين عالمين يكمل أحدهما الآخر، وهما عالم الشعر وعالم الرواية.
وفي سياق عام هو قارن بين علبة الليل، وبين الضحايا والأبطال هنا وهناك؛ لنجد أنفسنا في مواجهة قذرة مع ظروفنا الاجتماعية وأوساخنا السياسية والاقتصادية.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news