بعد سنوات من التواري عن المشهد عقب سقوط نظام الرئيس عمر البشير في انتفاضة شعبية عام 2019، خرجت الحركة الإسلامية السودانية من الظل إلى الضوء، معلنة بوضوح استعدادها لدعم بقاء الجيش في الحكم، مقابل تمهيد الطريق لعودتها السياسية عبر الانتخابات.
وبات هذا التحول، الذي ظل طويلا ضمن تفاهمات غير معلنة، اليوم أقرب إلى صفقة مكشوفة: دعم ميداني وعسكري تقدمه الشبكات الإسلامية، مقابل نفوذ سياسي مرتقب في مرحلة ما بعد الحرب.
ويرى سامي يوسف، أستاذ العلوم السياسية في جامعة الخرطوم، أن “هذه الصفقة بين الجيش والحركة الإسلامية تعكس واقعا سياسيا جديدا في السودان، حيث تبرز مصالح مشتركة بين الطرفين على حساب المبادئ الديمقراطية التي نادى بها الشعب في 2019.”
ويضيف يوسف: “عودة الإسلاميين عبر دعم عسكري للجيش تعني أن النظام لن يشهد تحولات جوهرية في قضايا الحريات والعدالة الاجتماعية، بل سيبقى في إطار تحالفات تقليدية تستند إلى النفوذ والقوة. هذا التحالف قد يفاقم الأزمة بدلاً من حلها، لأن القوى المعارضة والمجتمع المدني سيكونان في مواجهة مع حلف متماسك يرفض الإصلاح الجذري.”
وفي مقابلة نادرة، هي الأولى منذ سنوات، قال أحمد هارون، رئيس حزب المؤتمر الوطني المنحل، والمطلوب للمحكمة الجنائية الدولية، إن الجيش سيبقى في السلطة بعد انتهاء الحرب، وإن حزبه مستعد للعودة إلى الحكم فقط عبر صناديق الاقتراع.
وأشار هارون، الذي خرج من السجن في بدايات الصراع، إلى أن حزبه يقترح صيغة حكم تُبقي الجيش على رأس السلطة السيادية، مع تشكيل حكومة مدنية يرأسها رئيس وزراء يُنتخب لاحقاً، مبرراً ذلك بما سماه “الهشاشة الأمنية والتدخلات الخارجية” التي يتعرض لها السودان.
وباتت ملامح معالم التحالف بين الإسلاميين والجيش، وإن لم تُعلَن بشكل رسمي، واضحة في الميدان. وكشفت تقارير وشهادات عسكرية عن مشاركة آلاف المقاتلين المرتبطين بالحركة الإسلامية في دعم العمليات البرية للجيش، ولاسيما في الخرطوم ووسط السودان.
كما تحدثت وثيقة لحزب المؤتمر الوطني عن مساهمات مباشرة لما بين ألفين وثلاثة آلاف مقاتل إسلامي في المعارك، إضافة إلى تدريب عشرات الآلاف من المدنيين الذين استجابوا لحملة التعبئة العامة التي أطلقها الجيش.
وتتولى وحدات شبه مستقلة، مثل “كتيبة البراء بن مالك”، أدوارا بارزة في المعارك، حيث حصلت هذه الكتيبة، التي يقودها إسلاميون، على أسلحة وطائرات مسيّرة بالتنسيق مع قيادة الجيش، بحسب ما صرح به أحد قادتها.
◙ عودة الإسلاميين لم تكن مفاجأة فرضتها الحرب، بل هي نتيجة لمسار طويل من التغلغل المؤسساتي والتحالفات المعقدة
وتتهمها منظمات حقوقية بارتكاب تجاوزات ميدانية، وهي تهم نفاها قادتها، مؤكدين أن مشاركتهم تهدف إلى “صد عدوان قوات الدعم السريع.” وفي المقابل، بدأت مؤشرات سياسية تظهر تباعا على عودة الإسلاميين إلى مفاصل الدولة.
وشهدت حكومة التكنوقراط الجديدة، التي يرأسها كامل إدريس منذ مايو الماضي، تعيين عدد من الموالين للنظام السابق في مواقع تنفيذية رفيعة، في خطوة عززت الانطباع بأن الحركة الإسلامية لم تكتف بالدعم العسكري، بل تسعى لترسيخ موطئ قدم سياسي تمهيداً لمرحلة ما بعد الحرب.
ورغم هذه التطورات، لا تزال المؤسسة العسكرية تنفي وجود تحالف مع أي تيار سياسي.
وقال متحدث باسم الجيش إن المؤسسة لا تتحالف مع أي حزب، وإن دعم بعض القوى للحرب لا يمنحها حق التدخل في الشأن السياسي. إلا أن مصادر عسكرية أشارت إلى أن قائد الجيش عبدالفتاح البرهان يعمل على تحقيق توازن بين حاجته للدعم العسكري والمالي من الإسلاميين، وبين مخاوف داخلية وخارجية من تمكينهم الكامل من الحكم مجدداً.
وتشير الباحثة في الشأن السوداني لدى مركز الدراسات الأفريقية منى الطيب أنه “تاريخياً، كانت العلاقة بين الجيش والإسلاميين متوترة لكنها أيضاً تعاونية عندما تتطلب المصلحة. الدعم العسكري الذي تقدمه الحركة الإسلامية اليوم للجيش يأتي في سياق صراع وجودي لكليهما، ويبدو أنها راهنت على إعادة إنتاج نفسها من خلال النفوذ السياسي المرتقب. لكن الأمر سيواجه تحديات كبيرة على الصعيد الداخلي، حيث أن هناك شريحة واسعة من السودانيين ترفض عودة نظام البشير أو أي أشكال من الحكم الشمولي. لذلك، يبقى السؤال: هل ستتمكن هذه الصفقة من الصمود أمام ضغوط الشارع والمجتمع الدولي.”
ويثير التحول في العلاقة بين الطرفين مخاوف إقليمية ودولية، حيث تخشى أطراف أوروبية وأممية من أن يؤدي صعود الإسلاميين مجدداً إلى تقويض أي عملية سياسية انتقالية نزيهة تعقب الحرب، خاصة أن هذه العودة قد تتم تحت غطاء انتخابي بعد فترة انتقالية يسيطر فيها الجيش على مفاصل القرار.
ولم تكن عودة الإسلاميين إلى الساحة السياسية في السودان مجرد مفاجأة ظرفية فرضتها الحرب، بل هي نتيجة لمسار طويل من التغلغل المؤسساتي والتحالفات المعقدة التي تشكلت على مدى ثلاثة عقود من الحكم تحت مظلة نظام الرئيس المعزول عمر البشير.
وعلى الرغم من سقوط النظام في 2019 بفعل انتفاضة شعبية عارمة، إلا أن التفكيك الحقيقي لبنيته ظل ناقصًا، بل وانتكس مع الوقت تحت وطأة الانقسامات المدنية وتآكل الثقة في المسار الانتقالي.
وعقب الثورة، سعت قوى الحرية والتغيير إلى تفكيك الدولة العميقة التي بناها الإسلاميون داخل أجهزة الدولة، وخاصة الجيش والأمن والقضاء، لكن تلك المحاولات اصطدمت بعقبات بنيوية، إذ حافظت المكونات العسكرية على استقلالها النسبي، ولم تُفلح الحكومة الانتقالية في فرض سيطرة مدنية حقيقية على مؤسسات السيادة.
وفي خلفية هذا المشهد، ظلت شبكات الإسلاميين تتوارى دون أن تتفكك، مترقبة لحظة الفراغ التي تُعيد إليها المبادرة. وجاءت اللحظة الحاسمة مع انقلاب 25 أكتوبر 2021، حين أطاح قائد الجيش عبدالفتاح البرهان بالحكومة المدنية، منهياً فعليًا المرحلة الانتقالية.
◙ ما يجري في السودان ليس مجرد تحالف عسكري-سياسي مرحلي، بل إعادة تموضع لتحالف قديم بأدوات جديدة
ومثّل هذا التحول فرصة أولى لإعادة تموضع الإسلاميين، لكنها لم تُثمر سياسياً فورًا، خاصة في ظل الحذر الشعبي من عودتهم، والرفض الدولي لأي عملية سياسية غير توافقية.
ومع اندلاع الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع في أبريل 2023، تغيّرت قواعد اللعبة. فالجيش، المحاصر عسكريًا والمحدود على مستوى الموارد والكوادر، وجد نفسه بحاجة إلى دعم تعبوي وتنظيمي، وهو ما وفّرته شبكات الإسلاميين التي لا تزال تملك قنوات تجنيد وتدريب وخبرة قتالية.
وفي المقابل، رأت الحركة الإسلامية في الحرب فرصة لإثبات فاعليتها الميدانية، واستعادة بعض من شرعيتها المفقودة، خاصة في ظل تراجع حضور القوى المدنية وتشرذمها.
وهذا التبادل، الذي بدأ ضمنيًا، أخذ طابعًا أوضح مع الوقت. إذ بات الإسلاميون يعبّرون صراحة عن دعمهم للجيش، ويشترطون بالمقابل أن تكون مشاركتهم في الحكم المقبل عبر صناديق الاقتراع، وليس عبر تعيينات أو صفقات انتقالية.
ويُظهر هذا التحول وعياً تكتيكياً لدى الإسلاميين بتجنّب مواجهة مبكرة مع الشارع أو الخارج، عبر طرح العودة في إطار “ديمقراطي”، دون إغفال أنهم يتحركون فعليًا من موقع قوة عسكرية وميدانية لا تعكسها الصناديق بعد.
وفي خلفية هذه المعادلة، تقف عوامل إقليمية مهمة. فعدا عن التنافس التاريخي بين التيارات الإسلامية والعلمانية في السودان، فإن بعض الدول الفاعلة في الملف السوداني تخشى من تحوّل السودان إلى ساحة نفوذ لإسلاميين مدعومين من دول مثل تركيا أو قطر أو حتى إيران.
لكن العودة المحتملة للإسلاميين، حتى ولو عبر أدوات ديمقراطية، تثير تساؤلات حقيقية حول مستقبل الدولة السودانية. فالحركة التي ارتبط اسمها بقمع الحريات والانغلاق الأيديولوجي في التسعينات، لم تقدم حتى الآن مراجعة فكرية أو سياسية حقيقية تعكس تغيّرًا جوهريًا في منهجها، بل تراهن على الذاكرة القصيرة للشارع، والفراغ الذي خلّفته قوى الثورة.
ويرى محللون أن ما يجري في السودان ليس مجرد تحالف عسكري-سياسي مرحلي، بل إعادة تموضع لتحالف قديم بأدوات جديدة، تتقاطع فيه حسابات البقاء مع حسابات الاسترداد، ويتغذى من هشاشة الدولة وانقسام المجتمع، في ظل غياب مشروع وطني جامع يمكن أن يشكل بديلا حقيقيا لكل من العسكريين والإسلاميين.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news