في أحد شوارع مدينة تعز، وسط زحام الحياة اليومية وصخب المارة، يقف طفل لا يتجاوز عمره الثانية عشرة ربيعاً، يحمل على كتفيه أعباء لم تكن من نصيب من هم في عمره، بل من مسؤوليات الرجال الكبار.
إنه لا يلهو، ولا يلعب، ولا يرتاد المدرسة كما ينبغي لكل طفل في مقتبل العمر، بل يقف خلف عربة قديمة تُباع منها حبات الموز، يوزع الابتسامات رغم الألم، ويقاسِم الأمل مع من يمرّ بجانبه، في محاولة يائسة لسدّ رمق أسرة باتت تعتمد عليه بعد أن فقدت معيلها الوحيد.
الطفل، الذي لم يُفصح عن اسمه، أصبح وجهًا بارزًا من وجوه المعاناة الإنسانية التي تُخيّم على ملايين الأطفال في اليمن، بعد أن توفي والده إثر ظروف الحرب والانهيار الاقتصادي المتسارع.
في لحظة واحدة، تحوّل من طفل يبحث عن لعبته المفضلة إلى رجل صغير يبحث عن لقمة العيش لأمه وإخوته الصغار، الذين لم يعد في مقدورهم الاعتماد سوى عليه.
في تقرير مؤثر، أشار الكاتب والناشط الاجتماعي فاروق السامعي إلى أن هذا الطفل لم يجد أمامه سوى عربة الموز التي كان والده يتاجر بها قبل وفاته، فتبنّاها كمصدر وحيد للدخل، ووقف خلفها كل يوم، باكراً، يتحدى البرد، والتعب، والنظرة التي قد تكون مشفقة أو قاسية، لكنه يواصل مشواره بعزيمة لا تليق بسنه.
"لقد سُلبت منه طفولته، مثلما سُلبت من آلاف الأطفال في اليمن"، يقول السامعي، مضيفًا: "بينما يعيش أطفال العالم حياة مليئة باللعب، والتعليم، والرعاية، يُجبر أطفال اليمن على النزول إلى الشوارع، وتحمل أعباء الأسر، والعمل في ظروف لا إنسانية، فقط من أجل البقاء".
وأكد أن هذا الطفل ليس حالة فردية، بل هو نموذج يمثّل مئات الآلاف من الأطفال في مختلف محافظات اليمن، الذين اضطروا إلى ترك مقاعد الدراسة والانخراط في سوق العمل، سواء في البيع في الشوارع، أو جمع البلاستيك، أو العمل في ورش الميكانيكا، أو حمل البضائع في الأسواق، كلٌّ في سبيله يبحث عن لقمة تُسند أسرة منهكة، لم يعد لديها ما تقدمه لأبنائها.
فهناك من يعمل لساعات طويلة لإعالة والده الذي انقطع راتبه منذ سنوات بسبب توقف مؤسسات الدولة، وهناك من يبيع المناديل الورقية أو الماء في الإشارات الضوئية، ليُطعم إخوته بعد أن توفي والدهم في جبهة القتال، أو بسبب الأمراض التي لم تعد الأدوية تُعالجها في ظل انهيار القطاع الصحي.
تفاصيل مؤلمة، تكاد تكون يومية، لكنها تُغيب عن واجهة الإعلام، ليس لعدم أهميتها، بل لأنها باتت "طبيعيّة" في واقع اليمن، حيث صار العمل القسري للأطفال ظاهرة متفشية، تُستَهان بها، رغم خطورتها البالغة على مستقبل جيل كامل.
منظمات دولية محلية ودولية، كاليونيسف، حذّرت مرارًا من "كارثة إنسانية صامتة" تتمثل في تشغيل الأطفال، مشيرة إلى أن اليمن بات من بين الدول التي تسجّل أعلى معدلات عمل الأطفال في العالم، خاصة في ظل الفقر المدقع الذي يعاني منه أكثر من 80% من السكان.
لكن في ظل تعدد الأزمات، وانشغال وسائل الإعلام بتغطية المعارك والانفجارات، تبقى قصص هؤلاء الأطفال المجهولين في الشوارع، بلا صوت، بلا صورة، بلا عدالة.
الطفل في تعز، وآلاف مثله، لا يطلبون سوى أن يعيشوا طفولتهم، أن يذهبوا إلى المدرسة، أن يضحكوا دون أن يفكروا في الغد. لكن في بلدٍ منهار، يُصبح الحلم بسيطاً جداً: لقمة عيش، وسقف آمن، وفرصة للعودة إلى الحياة.
في النهاية، لا يمكن تجاهل أن هؤلاء الأطفال ليسوا مجرد ضحايا للحرب، بل شهود على فشل المجتمع الدولي والمحلي في حماية أبسط حقوق الإنسان: حق الطفل في الطفولة.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news