تقرير/ بشرى العامري:
في وقتٍ تشهد فيه اليمن أزمة صحية وإنسانية هي الأسوأ في العالم، تتكشف فصول جديدة من استغلال جماعة الحوثي للقطاع الطبي، وتحويله إلى واحد من أهم أدواتها للربح غير المشروع، وتعزيز النفوذ، وتمويل الحرب.
وكات تقرير صادر عن مركز الدراسات المتخصص P.T.O.C بعنوان “الأدوية كأسلحة: استراتيجية إيران لتمويل مليشيات الحوثي في اليمن” كشف النقاب مؤخراً عن شبكات معقدة تعمل على إغراق السوق اليمنية بأدوية إيرانية منخفضة الجودة ومزيفة، من خلال شركات أنشأتها أو سيطرت عليها المليشيا خلال العقد الأخير.
وبحسب التقرير، فإن هذه العملية ليست سوى جزء من حزمة الدعم الخفي الذي تقدمه إيران للحوثيين، والتي لا تقتصر على السلاح والنفط، بل تمتد لتشمل الأدوية التي أصبحت أداة للهيمنة والسيطرة وتثبيت النفوذ السياسي في مناطق سيطرة الجماعة.
السوق تحت قبضة المليشيا
منذ انقلاب 2015، سيطرت المليشيات الحوثية على سوق الأدوية شمال اليمن، وهي سوق تبلغ فاتورة استيرادها السنوية نحو 88 مليار ريال يمني، أي ما يعادل 4 ملايين دولار بسعر الصرف المحلي في مناطقهم. وقد نتج عن ذلك تدمير شبه كامل للشركات الوطنية وتراجع المنتجات الدوائية ذات الجودة العالية، لصالح أدوية إيرانية أصبحت الخيار شبه الوحيد المتاح.
حلّت الأدوية الإيرانية تدريجياً محل الأدوية المحلية أو المستوردة من دول ذات مواصفات طبية صارمة. وجاء ذلك من خلال تقنين وإغلاق مستمر لشركات الأدوية المستقلة، ومضاعفة القيود أمام المستوردين، وفرض جمارك باهظة وإتاوات، في مقابل تسهيلات ضخمة لشركات تتبع الحوثيين أو تعمل بتنسيق مع الحرس الثوري الإيراني.
خمس شركات حوثية تتحكم بالسوق
حدد التقرير خمس شركات رئيسية تلعب أدواراً محورية في هذه الاستراتيجية:
1. شركة النجم الأخضر لتجارة الأدوية والمستلزمات الطبية:
يديرها إبراهيم إسماعيل إبراهيم الوزير، ومقرها أمانة العاصمة.
والد إبراهيم، إسماعيل الوزير، مدرج ضمن قوائم الإرهاب السعودية منذ 2022، ويعد من أخطر قيادات الجماعة في تهريب الأموال والنفط.
2. شركة روناك الإيرانية توكيلات خاصة:
تتبع القيادي الحوثي محمد مهدي عبدالله الشاعر.
تعمل واجهة مالية لتسهيل استيراد الأدوية من إيران، عبر شبكة لوجستية تمولها طهران.
3. شركة تراضي للتجارة والتوكيلات المحدودة:
يملكها كل من حمود حسين خرباش وعبدالخالق الحمزي.
4. شركة ماجنيكو للتجارة العامة والتوكيلات:
5. مؤسسة الفارس للأدوية:
هذه الشركات لا تخضع لأي رقابة من الجهات الصحية أو الرقابية الرسمية، وتعمل بحرية تامة في مناطق الحوثيين، ما يجعلها أحد أخطر مصادر الدواء المزيّف والمنتهي الصلاحية في اليمن.
دعم إيراني وتواطؤ محلي
يشير التقرير إلى أن هذه الأدوية ليست فقط منخفضة الجودة أو مغشوشة، بل تُستخدم كوسيلة استراتيجية لتمويل أنشطة الحوثيين، على غرار ما يحدث في تجارة الوقود والسلاح. وقد تم استبدال عدد كبير من الأصناف الدوائية المأمونة بأخرى مجهولة المصدر، يتم الترويج لها على نطاق واسع في المستشفيات والمراكز الصحية الخاضعة للجماعة.
وبينما تعمل فقط 50% من المستشفيات اليمنية بشكل كلي أو جزئي، فإن هذه السياسة تُفاقم من معاناة المرضى، وتؤدي إلى تدهور إضافي في الخدمات الصحية، لا سيما في حالات الأمراض المزمنة والمناعية.
سوق محتكرة وعلامات تجارية مجهولة
تقول مصادر في قطاع الصيدلة بصنعاء إن الأدوية القادمة من إيران باتت تشكّل ما يقارب 30% من الأدوية المتوفرة في الصيدليات، لا سيما في مجالات الأمراض المزمنة والسرطانات والمضادات الحيوية، بعد أن تم التضييق على شركات محلية ومستوردين كانوا يتعاملون مع علامات تجارية معروفة وموثوقة.
وبحسب صيدلاني رفض الكشف عن اسمه لدواعٍ أمنية، فإن “غالبية الأدوية الإيرانية التي تُباع اليوم ليست مدرجة في دليل الأدوية اليمني الرسمي، ولا تتوفر معلومات كافية عن فعالية تركيبتها، كما أن بعضها يدخل البلاد دون فحص مخبري حقيقي، بسبب توجيهات من سلطات الأمر الواقع”.
أرباح لمجهولين وأرواح في خطر
وفي الوقت الذي تضخ فيه الأدوية الإيرانية إلى السوق بأسعار مضاعفة تصل أحياناً إلى ثلاثة أضعاف السعر السابق للدواء الأصلي، يعاني المرضى من تدهور حالتهم الصحية بسبب انخفاض فعالية بعض هذه البدائل. وتحدث أطباء عن تزايد حالات انتكاسات مرضية بعد استخدام أدوية بديلة من منشأ غير معروف.
وفي السياق ذاته، تشير تقارير لمنصات مراقبة دولية إلى أن هذه التجارة تمثل أحد أهم مصادر التمويل لمليشيا الحوثي في الوقت الراهن، بعد انخفاض موارد الجبايات.
حيث يتم استيراد الأدوية بأسعار منخفضة من مصانع مرتبطة بالحرس الثوري الإيراني، ثم تُباع في السوق اليمنية بأسعار مرتفعة للغاية، دون رقابة حقيقية أو شفافية في التوزيع.
فساد عابر للحدود
بحسب تقرير نشره موقع YemenD، فإن الشركات التي تتولى عمليات الاستيراد ترتبط مباشرة بقيادات حوثية، وبعضها تأسس بعد 2015 خصيصًا لهذا الغرض. كما أن شحنات الأدوية تمر عبر ميناء الحديدة، وتخضع للحماية الكاملة من جماعة الحوثي دون تدخل جمركي فعّال.
اللافت للأمر أن عدداً من الأدوية الإيرانية التي يتم تداولها اليوم لا تحظى باعتراف أو تسجيل في قوائم منظمة الصحة العالمية، كما لم يتم تقييم فعاليتها من قبل هيئات رقابية مستقلة.
دعوات للمحاسبة والتحقيق
ومع تزايد المؤشرات حول تواطؤ قيادات حوثية وشركات خاصة في هذه التجارة القاتلة، تتعالى الأصوات المطالِبة بفتح تحقيق دولي شفاف يشمل قطاع الأدوية في اليمن، باعتباره ملفاً إنسانياً وأمنياً بالغ الخطورة.
ويؤكد مراقبون أن بقاء هذا القطاع الحيوي رهينة بيد جماعة مسلحة سيؤدي إلى مزيد من الكوارث الصحية، ويعزز من إفلات الجناة من العقاب، في ظل غياب الرقابة الفعلية من قبل الحكومة الشرعية أو المنظمات الأممية المختصة.
ويشير هؤلاء إلى أن النيابة العامة اليمنية مطالبة بالتحرك الفوري لفتح ملفات الشركات المتورطة، وضبط المتلاعبين بصحة الملايين من اليمنيين، وإحالة القضايا إلى المحاكم المختصة.
ملفات لم تُفتح وضحايا بلا عدالة
يؤكد ناشطون صحيون أن ما يحدث هو “تجريف منظم للقطاع الدوائي”، موضحين أن الجماعة الحوثية لا تدير فقط الاستيراد، بل تمارس ابتزازًا على الصيدليات والموزعين، وتفرض عليهم بيع أصناف معينة بحجة “توجيهات الهيئة”، في حين يتم تهميش الوكلاء المحليين المستقلين.
وتُحمّل منظمات مدنية محلية الأمم المتحدة والمنظمات الصحية الدولية جزءًا من المسؤولية بسبب “صمتها عن تغوّل المليشيا في القطاع الصحي”، بينما لا تزال تقارير الضحايا والمصابين الذين تعرّضوا لتداعيات هذه الأدوية في طيّ النسيان.
في ظل هذا الواقع، يطالب ناشطون ومنظمات حقوقية بإجراء تحقيق دولي مستقل في طبيعة تجارة الأدوية في اليمن، ومساءلة من يقفون خلف هذه العملية التي وصفوها بأنها “قائمة على استغلال المرضى وتمويل الحرب في آنٍ واحد”.
كما دعوا الحكومة الشرعية إلى استعادة دور الهيئة العليا للأدوية، والعمل على إدراج الأدوية المهربة وغير المسجلة ضمن قائمة المواد الخطرة، إلى جانب إطلاق حملة وطنية لإعادة تنظيم سوق الدواء وضمان توفير بدائل آمنة وفعالة للمواطنين في كافة المناطق.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news