"ورقة تحليلية سياسية تشرح مشاريع النفوذ في شرق الجنوب، وتقترح أدوات لاستعادة المبادرة السيادية.
إعداد// علي ناقد الهاشمي.
---
مقدمة:
بينما يخطو المجلس الانتقالي الجنوبي خطوات ثابتة في المحافظات المحررة من الجنوب، ويؤسس لسلطة أمر واقع ذات شرعية جماهيرية، تبرز المحافظات الشرقية — المهرة، حضرموت، وسقطرى — كأكثر المناطق حساسية وتعقيدًا في الصراع الجنوبي الإقليمي. فهذه المناطق، ورغم جنوبيتها التاريخية والجغرافية، تقع تحت تأثير مشاريع إقليمية متنافسة تُعيد صياغة الولاءات المحلية، وتمنع تمدد الانتقالي بوسائل ناعمة أكثر خطورة من القوة الصلبة.
لقد بات من الواضح أن معركة استعادة الدولة الجنوبية لن تُحسم في عدن وحدها، ولا على خطوط المواجهة العسكرية، بل في المجال الرمادي حيث تُدار السيادة بأدوات النفوذ، وتُختطف الجغرافيا بهدوء عبر الخدمات، والتجنيس، والدعاية، والاحتواء.
في هذه الورقة، نرصد ملامح المشروع العماني في المهرة، والسعودي في حضرموت، والإماراتي في سقطرى، ثم نعرض مقترحات عملية ذكية لاستعادة المبادرة الشعبية والسياسية في هذه المناطق، بدون الدخول في صدام مباشر مع الأطراف الإقليمية، بل عبر توسيع قاعدة المشروع الجنوبي وبنائه من الداخل.
---
أولاً: المهرة — بين النفوذ العماني والهوية الجنوبية المغيّبة
أهمية المهرة:
تقع المهرة على أطول شريط ساحلي في اليمن، وتمتد حدودها مع سلطنة عمان، مما جعلها موضع اهتمام استراتيجي، خصوصًا في ظل هشاشة الدولة المركزية وانكفاء الأطراف اليمنية عن إدارتها. غير أن الأهمية لا تكمن فقط في الجغرافيا، بل في التوقيت، إذ أن السلطنة وجدت في الفراغ السياسي هناك فرصة لبسط نفوذ ناعم دون إثارة مواجهة إقليمية.
أدوات النفوذ العماني:
التجنيس السياسي: منحت سلطنة عمان مئات البطاقات الشخصية وجوازات السفر لأبناء المهرة، ما خلق ولاءات مزدوجة.
الاحتواء الخيري والخدماتي: تمويل مشاريع مياه، وكهرباء، وإغاثة عبر مؤسسات عمانية، ما جعل السكان ينظرون إلى عمان كمصدر استقرار ومعيشة.
التواصل النخبوي: احتواء مشايخ ووجهاء وقبائل مؤثرة في المهرة، وربطهم مباشرة بالأجهزة الرسمية العمانية.
الخطاب الإعلامي: عبر وسائل إعلام محلية ممولة عمانيًا تروّج لفكرة "الخصوصية المهرية" وتضخيم المخاوف من المشروع الجنوبي.
المآلات:
إذا استمر هذا النفوذ دون مقاومة فكرية وتنظيمية، فإن المهرة قد تتحول فعليًا إلى كيان وظيفي مرتبط سياسيًا واقتصاديًا بعمان، وتُفصل ثقافيًا عن عمقها الجنوبي، ما يهدد وحدة الجنوب ويُنشئ سابقة خطيرة.
الرؤية الجنوبية للمواجهة:
خطاب سياسي ذكي: يؤكد أن الجنوب لكل أبنائه، وأن المهرة ستكون شريكًا لا تابعًا، مع احترام خصوصيتها الثقافية.
مشاريع خدمية جنوبية: عبر مبادرات إنسانية وتنموية، تُظهر أن الجنوب قادر على رعاية المهرة دون وصاية خارجية.
تمكين النخب المهرية: دعم شخصيات سياسية واجتماعية مهرية تؤمن بالمشروع الجنوبي لتكون واجهة حوار داخلي.
خطاب إعلامي موازٍ: يعيد المهرة إلى وجدان الجنوبيين عبر التاريخ المشترك، والشهداء، والمصالح الوطنية الواحدة.
بهذا، تكون المهرة ساحة وعي وتنظيم لا ساحة خصومة، واستعادتها لن تتم بالصوت العالي بل بالصوت العاقل الذي يخاطب الناس بلغتهم ويخدمهم في واقعهم.
---
ثانيًا: حضرموت — رئة الجنوب في قبضة المشروع السعودي
لماذا تهم حضرموت الرياض؟
تعتبر حضرموت المحافظة الأكبر مساحة، والأغنى من حيث الثروات النفطية والموقع الجغرافي. وهي تمتد على شريط حدودي طويل مع السعودية، وتشرف على سواحل محورية على بحر العرب. لذا، تُعد بالنسبة للسعودية منطقة أمن قومي، وطوقًا استراتيجيًا يُمنع خروجه عن نطاق النفوذ.
أدوات المشروع السعودي:
التمكين العسكري عبر وكلاء محليين: إبقاء المنطقة العسكرية الأولى في وادي حضرموت رغم مطالبات الرحيل، وتمويلها بشكل منفصل.
بناء نخب سياسية بديلة: تمكين كيانات مثل "مؤتمر حضرموت الجامع" و"حلف قبائل حضرموت" لتكون صوتًا حضرميًا مناهضًا للتمثيل الجنوبي.
المشاريع الخدمية المشروطة: تمويل مشاريع بنى تحتية، صحية وتعليمية، تُدار بمنطق الولاء لا التنمية المجتمعية.
تطبيع الفكرة الانفصالية الناعمة: عبر خطاب يروج لفكرة "حضرموت المستقلة عن الشمال والجنوب معًا".
نتائج محتملة:
إذا استمر هذا المشروع دون توازن، فستظهر حضرموت كـ"دولة داخل الدولة"، محكومة بنفوذ سعودي غير مباشر، معزولة عن القرار الجنوبي، وضعيفة السيادة.
الاستراتيجية الجنوبية المقترحة:
الخطاب المتزن: التأكيد على أن حضرموت ركن أساسي في الجنوب، وأن المشروع الجنوبي لا يلغي خصوصيتها بل يحميها.
تمكين الكوادر الحضرمية: الدفع بنخب حضرمية إلى مواقع قيادية داخل الانتقالي الجنوبي.
المشاريع التنموية البديلة: دعم مبادرات خدمية بإدارة حضرمية جنوبية لإثبات قدرة الداخل على إدارة نفسه.
احتواء الشخصيات المترددة: فتح حوار مع التيارات الحضرمية التي لم تنخرط بعد، بعيدًا عن التخوين.
حضرموت لا تُؤخذ بالقوة، ولا تُترك لغيرها، بل تُستعاد بالثقة والشراكة والعدالة.
---
ثالثًا: سقطرى — الجوهرة المختطفة في الظل الإماراتي
الموقع والدافع:
تُعد جزيرة سقطرى جوهرة بحرية جنوبية ذات موقع استراتيجي استثنائي، تتحكم بخطوط الملاحة بين خليج عدن والمحيط الهندي. هذا الموقع المغري جعلها مطمعًا لأي قوة بحرية تبحث عن النفوذ بعيدًا عن ضجيج الحرب اليمنية. وهكذا، تمددت الإمارات في سقطرى بهدوء، وحولتها من جزيرة يمنية جنوبية إلى ما يشبه القاعدة الإدارية الخاصة.
أدوات الهيمنة الإماراتية:
السيطرة الأمنية: عبر قوات محلية دربتها ومولتها أبوظبي خارج إطار الدولة، ومنعت مؤسسات الشرعية والانتقالي من ممارسة أدوارهم الطبيعية.
المشاريع الخدمية الخاضعة للنفوذ: تقديم الكهرباء والمياه والمساعدات الغذائية والدوائية عبر "مؤسسة خليفة"، لكنها أدوات ولاء لا تنمية.
التجنيس والتغيير السكاني: تقارير عن منح الجنسية الإماراتية لعدد من السقطريين، ونقل آخرين إلى أبوظبي ضمن برامج تأهيل وتطويع.
العزل الثقافي والسياسي: قطع الجزيرة عن عمقها الجنوبي، ومحاولة تشكيل هوية منفصلة عبر الإعلام والتعليم والمساعدات.
المخاطر:
إذا استمر هذا الوضع، فإن سقطرى ستكون أول قطعة تُفصل فعليًا عن الجسد الجنوبي، وتتحول إلى إقليم شبه مستقل مرتبط بالإمارات اقتصاديًا وأمنيًا، دون إعلان رسمي.
خطة المواجهة الجنوبية:
خطاب سيادي غير تصادمي: شكر الإمارات على الدعم، مع التذكير بأن السيادة خط أحمر، وأن المساعدات لا تُمنح مقابل الصمت.
تمكين النخب السقطرية الجنوبية: دعم شخصيات من داخل الجزيرة تؤمن بالجنوب، وتمثيلهم داخل مؤسسات القرار الجنوبي.
إطلاق مشاريع خدمية بديلة: إرسال بعثات طبية وتعليمية جنوبية للجزيرة، وكسر حصرية الإمارات في المجال الخدمي.
التواصل الدولي: إذا تعذر استعادة الوضع داخليًا، يجب رفع الصوت لدى المنظمات الدولية بأن سقطرى ليست أرضًا معروضة للمقايضة.
سقطرى تُستعاد كما فُقدت: بالصبر، والتخطيط، والتواصل مع سكانها قبل فرض الأمر الواقع عليهم.
---
خاتمة استراتيجية:
ليست المهرة وحدها من تتنفس الهواء العماني، ولا حضرموت فقط من تُقيد بأنفاس السعودية، ولا سقطرى التي تُصاغ بملامح إماراتية — بل هي معركة سيادة مكتملة الأركان تخاض بهدوء وذكاء في الشرق الجنوبي، حيث لا صوت للرصاص، لكن كل شيء يعاد تشكيله من تحت الطاولة.
لقد أدركت الأطراف الإقليمية مبكرًا أن الجنوب قادم، وأن مشروع استعادة الدولة بات وشيكًا، فاستبقت لحظة النهوض بتثبيت موطئ قدم في أهم المناطق المفصلية التي بدونها لا تقوم دولة ولا تستقيم سيادة.
وأمام هذا الواقع، لا ينبغي للمجلس الانتقالي الجنوبي أن يكتفي بالتمدد العسكري أو الخطاب الحماسي، بل هو مطالب بتطوير مشروعه الوطني ليصبح أكثر شمولًا واستيعابًا وتخطيطًا:
تعزيز الشراكة مع نخب المهرة وحضرموت وسقطرى.
فتح قنوات حوار مع القوى الإقليمية، لا لطلب الرضا، بل لإعادة ضبط قواعد التفاعل.
الاستثمار في القوة الناعمة: التعليم، الإعلام، الصحة، الإغاثة.
بناء خطاب سياسي جامع لا يُقصي أحدًا، ولا يتخلى عن أي شبر من الجنوب.
إن معركة السيادة في الشرق ليست معركة بنادق، بل معركة عقول وخطط طويلة النفس.
وإذا نجح الجنوب في استعادة شرقيّه، فسيكون قد استعاد نَفَسه السياسي، وبنى دولته من جديد على قاعدة صلبة تشمل الجغرافيا، والكرامة، والانتماء.
وما لم ننتصر هناك، فإننا لم ننتصر بعد.
علي ناقد الهاشمي.
12 يوليو 2025م.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news