في أزمنة العجز في كل شيء، خصوصًا في بلدان ومجتمعات مبتلاة بالحروب والصراعات التي غدت مستدامة كأنما صارت بديلًا لخيارات الإنماء المعكوس، يبرز موضوع توطين الإنتاج المحلي كأمنية تطالها الأعطاب حتى في الحلم. كأنما يُراد لمجتمعاتنا، التي لا تزال تُصنف كمجتمعات “ما دون النمو”، أن تظل حبيسة التبعية ومنزوعة الإرادة.
وحتى لا أبدو متشائمًا كثيرًا وسط تسارع شهية القارئ أو المشاهد وتشتتها بين رغبات شتى، تظل أهمية وجدوى “تبيئة” الإنتاج المحلي حاضرة، وإن لم تُرَ بالعين المجردة، إلا بوصفها إحدی الرهانات الكبرى التي لا تكتمل الحياة الكريمة بدونها.
تكاد لا تبدو هذه الفكرة اليوم خيارًا اقتصاديًا ذا أولوية، إلا ضمن محاولات مؤسسية فردية متقدمة – كما هو الحال مع أسرة تجارية عريقة مثل “مجموعة هائل سعيد أنعم”، التي تمثل نموذجًا يُحتذى به، لا يُستثنى منه غيرها بل يُؤمل أن يُعمم.
حين ينظر المواطن اليمني إلى الغد، يصطدم بقوت يومه وأعباء معيشته، فيظل أسير الحاجات الملحة، دون أفق للاستقرار. واقع مكبل بقيود كثيرة تجعل منه ترسًا لا يبرح مكانه، يدور في حلقة لا تنكسر.
هل يمكن أن نستعيد، رغم هذا، أملًا حقيقيًا في إعادة وصل العلاقة المقطوعة بين الإنسان وأرضه، بين السوق وذاكرته، بين الحاجة واليد التي تلبيها؟ وهل نملك بعدُ القدرة على التفكير بخيار بديل محلي موازٍ لما يأتي من الخارج، على نحو تدريجي لكن بعزيمة تستند إلى الفعل لا إلى التمني؟
لأعوام طويلة، ظل المنتج اليمني مرادفًا للضعف، في مقابل ما يأتي محمَّلًا في الحاويات الأجنبية. كان التقدير له قاصرًا، محاطًا بنظرة دونية، بينما أحيط المستورد بهالة “الجودة الجاهزة”، رغم أنه في كثير من الأحيان لا يملك ما يفوق المحلي إلا دعايةً أو تغليفًا.
اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، نحن بحاجة إلى توطين الصناعات المحلية والتحويلية كخيار يحدّ من الاستلاب الاقتصادي والاستهلاكي. علينا أن نؤمن، كما آمنت شعوب أخرى، بأن الإرادة والتراكم المعرفي قادران على خلق البدائل. لا المكابرة، بل العمل والمثابرة.
توطين الإنتاج ليس مجرد إدخال آلة، بل بناء رؤية، ثقافة، وإرادة إنتاجية. كما في تجربة البن اليمني اليوم، الذي تحوّل إلى ثقافة وصناعة وسفارة. لم يكن ذلك وليد الصدفة، بل نتاج وعي تشكّل وامتد، ورافقه تأسيس لأدوات المنافسة في سوق القهوة المختصة، عالميًا ومحليًا.
لكن إرادة الإنتاج المحلي لا تزال، في معظم السياسات اليمنية، غائبة أو مهمشة، باستثناء بعض المبادرات الجزئية. فهل نمتلك الجرأة لبدء خطوات جادة نحو تحقيق الاكتفاء، استنادًا إلى إيماننا بأننا نستطيع، رغم محدودية مواردنا، أن نصنع ما نحتاج، دون إذلال أو اعتماد دائم على الخارج؟
متى يتقدم الفعل “نريد” ليقود حركة السوق؟ متى يتوقف سطو النخب والمصالح النافذة على ما تبقى من فرص؟ حين ننتج بأيدينا ووعينا، نكف عن انتظار الحلول المستوردة. حين نحول الخامات إلى قيمة، والأفكار إلى أدوات، نبدأ بناء نمط اقتصادي مستدام، لا مجرد بديل مؤقت.
إن العالم من حولنا يبتكر، بأدوات بسيطة أحيانًا، لكن بإرادة عميقة. من مواطنين، وفلاحين، وعقول حرة. فهل نسمح لوعينا أن يبتكر هو الآخر؟ أن ينظر إلى المنتج المحلي كجزء من دورة متوازنة للحياة، بين الأرض واليد، بين المجتمع والدولة؟
إن جدوى التوطين تتجلى في مستويات متعددة: اقتصاديًا، من خلال إعادة تدوير رأس المال داخل البلد، وتوفير فرص العمل، وتحفيز الاستثمارات الصغيرة. واجتماعيًا، بإعادة الاعتبار للمهن اليدوية، للفلاح، للحرفي، للمهندس، ولكل من يسهم في بناء السيادة كقيمة لا كشعار.
أما على المستوى السيادي، فليس هناك استقلال سياسي بلا استقلال اقتصادي. المجتمعات التي تأكل مما لا تزرع، وتلبس مما لا تصنع، لا تملك قرارها، بل تُقاد إليه. وكل شعار لا يُترجم إلى واقع إنتاجي، هو فقط لافتة تخفي خلفها مزيدًا من الفجوات.
لكن هذا كله لا يتم بالشعارات. يحتاج التوطين إلى وعي تفاعلي، إلى سياسات تعليمية ومهنية، إلى بنية تحتية حقيقية، وإلى ذائقة اجتماعية جديدة. أن ننظر إلى المنتج المحلي لا كبديل رخيص، بل كخيار واعٍ، يستحق الاحترام، ويعبر عن الكرامة الوطنية في أبسط صورها.
واذا فالمطلوب ليس القطيعة مع الخارج، بل علاقة متوازنة. أن نعرف متى نحتاج للاستيراد، ومتى نملك القدرة على النهوض بأنفسنا. أن يكون التوطين طموحًا طويل النفس، لا مجرد خطاب مناسباتي.
إن الهدف الحقيقي لتبيئة الإنتاج المحلي هو تعبير عن مجتمع قرر أن ينهض بإرادته، من ترابه، ومن فكرته، ومن أدواته، دون استعارة. كل تجربة توطين ناجحة تقول: نحن لا ننتج فحسب… بل نثق. لا ننتظر ما يُصنع لنا، بل نصنع ما يُشبهنا.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news