بشرى العامري:
في بلدٍ تُمحى فيه الأسماء العظيمة من ذاكرة المجتمع، وتُنسى الأدمغة في زحام الفوضى، رحل المهندس والمخترع محمد العفيفي، الرجل الذي قدّم لليمن والعالم جهاز “الأوتوكيو”، دون أن يجد حتى لحظة رحيله اهتماماً يليق بما منحه من عمره، وعقله، وكرامته المهنية.
بالأمس، ودّع العفيفي الحياة كما عاشها في بلده بصمت، وبلا ضجيج، وبلا حتى اعتراف رسمي بخسارة وطنية فادحة.
ودون إلتفاتة نعي رسمية، ودون وسائل إعلام تحتفي بعبقريته الراحلة.
رحل عن عمر ناهز 76 عاماً، دون أن تلتفت إليه الجهات الرسمية، أو تُسطر بحقه حتى عبارة ‘قضى عمره في خدمة الوطن’ التي طالما وُزِّعت مجاملةً لكل من لا يستحق، بينما حُجبت عن من أفنوا حياتهم حقاً في سبيله.”
من عزلة “هجرة بني العباس” في محافظة عمران، انطلق العفيفي شاباً طموحاً، درس الهندسة في الكويت، وتخصص في هندسة الاستوديوهات في بريطانيا، ثم تلقى تدريبات متقدمة في ألمانيا وسويسرا، لكنه رغم كل تلك الفرص، قرر العودة إلى الوطن ليبني فيها ما يستطيع من الحلم.
وبالفعل، كان من أوائل المؤسسين للتلفزيون الرسمي حينها، وأسهم بابتكارات تقنية سبقت عصرها، أبرزها اختراعه الشهير لجهاز “الأوتوكيو”، المستخدم عالمياً اليوم لعرض النصوص أمام المذيعين.
هذا الجهاز الذي طوّره العفيفي بإمكانات شخصية، بات ركيزة في كل غرفة أخبار عربية، دون أن يذكر أحد اسم مخترعه.
سجّل العفيفي أكثر من 31 اختراعاً حسب كثيرون يعرفون ومادون عنه، لكن لم يُوثّق منها رسمياً سوى أربعة، بسبب غياب مؤسسات تحمي العقول، وتحفظ الملكية الفكرية، وتمنح الأمل للمبدعين.
أما هو، فاختار أن يبقى، رفض أن يغادر البلاد، مؤمنا أن الوطن بحاجة له، حتى لو لم يبادله الوفاء.
ولعل السؤال المؤلم الذي يتكرر اليوم
ماذا لو لم يكن العفيفي يمنياً؟
ماذا لو عاش في دولة تعترف بالمخترعين وتستثمر العقول؟
لربما كانت اختراعاته تُدرس اليوم في الجامعات، واسمه يتردد في المؤتمرات الدولية، ويُستقبل بتكريم يليق بمكانته، ولكان كل من في الوطن يتغنى بأسمه وانجازاته
لكن لأنه أختار البقاء في اليمن، رحل بصمت، تماما كما عُزل حيّاً في زمن الجحود والنفاق والرياء.
لم يكن محمد العفيفي بحاجة لتمثال، ولا لقصيدة رثاء، كان فقط بحاجة لوطن يعترف بأنه أنجب مخترعاً حقيقياً، فشل في احتضانه، لكنه يستطيع على الأقل أن يعتذر له بعد الرحيل.
العفيفي لم يكن موته اليوم فقط، بل مات يوم أُهملت أفكاره، وسُدّت الأبواب في وجهه، وتحوّلت اختراعاته إلى مجرّد ملفات منسية في أدراج المؤسسات.
مات يوم لم يجد أحداً يقرأ سيرته، أو يدافع عن إنجازاته، أوحتى يحظى بكلمة افتخار وتقدير.
في المقابل ما كان لرحيل العفيفي أن يمر دون أن تركب ميليشيات الحوثي الموجة، فتُرسل برقية تعزية باسمه، في سلوك لم يُدهش من يعرف كيف تسيء هذه الجماعة لكل صاحب عقل وفكر، فهي التي أهانت العلماء، وأقصت الكفاءات، وضيّقت على المبدعين حتى رحلوا صامتين أو غادروا منفيين من وطن لا يتسع لهم.
وجاءت برقيتها – الخاوية من الصدق – وكأنها صفعة جديدة لذكرى العفيفي، أكثر من كونها اعترافاً بفضله.
كيف يمكن لمن يهين العقول أن يواسيها بعد موتها؟ وكيف لمن يُجرّم التميز أن يذرف دموع التقدير الزائفة؟.
برقيات النفاق هذه لا تكرم الراحلين، بل تفضح الواقع المرير الذي كان سبباً في دفنهم أحياء قبل أن يُواروا الثرى.
رحيل العفيفي اليوم يُشكل فرصة لإعادة التفكير في الكيفية التي يجب أن نتعامل بها مع مبدعينا، في بيئة لا تزال تُجهض الأحلام، وتغتال الكفاءات بصمتٍ مقصودٍ ولا مبالاة مريعة، بينما لا تُكرِّم إلا القتلة، والمزايدين، والجهلة، وضجيج الغثّ من مشاهير مواقع التواصل الإجتماعي.
فهل نتعلم من الدرس؟
أم ننتظر أن يموت العفيفي التالي… بلا رثاء، ولا كلمة، أو ذاكرة تحفظه؟
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news