عن أصحاب تعز

     
بيس هورايزونس             عدد المشاهدات : 149 مشاهده       تفاصيل الخبر       الصحافة نت
عن أصحاب تعز

بعد أن استطاعت الثورة المضادة لثورة 11فبراير2011م السلمية أن تطفو بأحقادها، وتجر البلد المهلهل اقتصاديا وسياسياً إلى صدامات مسلحة، سمعنا كثيراً، مقولات تندد بأصحاب تعز، وتحملهم مسؤولية كل الاحداث التي تداعت بسبب الثورة الشبابية الشعبية، وتتهمهم بانهيار العملة الوطنية، وغلاء المعيشة، وتخريب الأمن و ضياع الاستقرار، والاستقرار هنا هو الركود الذي كانت توفره سلطة علي عبد الله صالح.

  وأصبحت  مقولة”أصحاب تعز”، تتردد في سياق الإدانة والاستنكار :”هذا منكم يا أصحاب تعز”، “هيا أعجبكم يا أصحاب تعز؟!”، بسبب ثورتكم يا أصحاب تعز”  ،” يا أصحاب تعز قلتم: ارحل”،  ” كل هذا الدمار منكم يا أصحاب تعز” … إلخ.” وهي مقولة دالة على أننا مجتمع غير مندمج،  فصاحب تعز يظل صاحب تعز حتى ولو عاش في صنعاء أو في  غيرها ثلاثة أجيال.  وصاحب صنعاء يظل في نظر أبناء المناطق الأخرى صاحب صنعاء وهكذا لا ينظر لأحد إلأ بحسب منطقته أو قبيلته. وأول ما تجلس بجوار أحد في الباص يسألك:  أنت من أين، ويستسفر عنك إلى الجد الرابع وكأنه في الحال سيستخرج لك أوراق ثبوتية، كل ذلك بحثاً عن لقبك؛ ليعرف هل تطابق التصنيف الذي في مخياله العنصري!

و حديث بعض الناس عن أن الثورة بسبب أصحاب تعز يكشف عن تحيزات مفعمة بالإدانة .كأنَّ الثورة كانت من تعز، ولم تكن من اليمن كلها، بل كأنَّ اندلاع الثورة لم يكن لأسباب موضوعية، تراكمت في الواقع المعيش،بفعل سوء إدارة الموارد وفساد الإدارة وأحدثت الثورة. كأنَّ البلد كانت في رخاءٍ و نعيم، وجنة تجري من تحتها الأنهار؛ فوسوس لهم الشيطان فأخرجهم منها. بل كأنَّ الثورة كانت بطر بالنعمة لا نتيجةً لتردي الواقع وانسداد الأفق، وتراكم الممارسات السلطوية المتغولة على الدولة والمجتمع.

ثم بالمقابل نسمع مَنْ يفخر بتعزّيته، ويتغنى بها وكأنها امتيازٌ إلهي، و يزعم أن “تعز” وحدها قامت بالثورة، وكأن الثورة براءة اختراع تعزي، و يسرف في تمجيد تعز و أهل تعز، وأبناء ورموز تعز وأصحاب تعز، وينسب إليهم كل فضائل التاريخ و ينسب  إلى غيرهم كل نقائص الكون. بل ويرى ان ما يحدث لتعز الآن هو مؤامرة عليها.  وكأن بقية مدن الوطن التي تحترق خارج حسابات هذا المحب لتعز.

بل ومن الناس مَنْ يتجاهل التاريخ والواقع معاً ويُصدّق أن تعز صاحبة الثورات والانجازات الوطنية الخارقة، والمشاريع الحضارية الخالدة، وصانعة التحولات التاريخية الكبرى، ويتحدث عن تعز في صميم حديثه عن الدولة والمدنية، و لا يدرك أن هذا التغنّي لا علاقة له بأي وعيٍ مدني. فمثل هذا التغني هو من صميم العصبية. وفي قلب الخطاب العنصري.

  تعز فضاء يمني، فيه كل ما في المجتمع اليمني من أمراض، و ليس لها أي ميزة حصرية، وأي تمدَح بتعز و أهلها مثل أي هجاء لها يُغفل حقيقة أن هذا التعميم يفضي إلى التعمية. وهو تجاهل لما حدث في واقع ساحات التغيير والحرية على امتداد الجمهورية اليمنية، حين تدافع المجتمع اليمني إلى نداء الثورة بلا أي حسابات مناطقية وبلا أي اعتبارات عصبوية، وكانت الثورة زخماً جمعياً عابراً لكل القطائع و التمايزات. وحدثاً لافتاً وحَّد المجتمع رغم كل التباينات الحادة. وكانت روح الثورة أقوى من كل نزعات التمايز. وتلك ميزة الثورة و ما تحمله من قيم تحررية،و مبادئ إنسانية.

  قد يكون لتعز المكان في بعض دورات التاريخ بعض ما يخصها بفعلٍ مميز، مثلما لغيرها من الأمكنة في دورات تاريخية أخرى، مثل زبيد، ومأرب، وصنعاء، و مذيخرة…الخ. وهذا نظراً لعوامل كثيرة تتوافر للمكان أحيانا؛ فتجعل منه نقطة انطلاق حدثٍ ما، و قد يكون من تلك العوامل أمورٌ خارج قدرة المكان بذاته، منها ما هو سياسي بحت، أو ديموغرافي، ومنها ما هو جيوسياسي، أو اقتصادي؛ كأنْ يكون المكان مركز السلطة، مثلما حدث مع تعز في عهد الإمام أحمد حميد الدين، أو أن تكون مدينة معينة كثيرة السُكان، وهذا يجعل منها موّارة بالتباينات أكثر من غيرها، أو أن تكون متاخمة لبلدٍ أو لجهةٍ ذات خصوصية مدينية تجارية وثقافية، مثلما هو الحال في وقوع تعز على حدود مدينة عدن التي كانت مركزاً تجاريا مهما، وموقعاً جغرافياً لسلطة استعمارية أحدثتْ في عدن نقلةً مدنية وحراكاً اجتماعيا وثقافياً متقدما، على مستوى التخطيط الحضري، والانفتاح المجتمعي . وانعكس الأمر على تعز في سياقات معينة بفعل التأثر بالوسط الذي كان يعمل فيه أولئك العمال والحرفيون والتجار المولودون في محافظة تعز. فكثير من أبناء تعز لظروف قاهرة و بصدفة محضة  وجدوا أنفسهم بالقرب من مدينة عدن وانتقلوا للعمل في عدن المستعمرة بريطانيا، والمدينة الكوزمبوليتانية، لحقبةٍ طويلة من الزمن. لأن بيئتهم الجغرافية طاردة و لا تحتمل كثافتهم السكانية وعدن يومها مدينة قريبة وتتيح بعض فرص العمل. تلك هي العوامل وذلك بعض الحظ الذي قد يحظى به بعض البوساء والتعساء في دورات التاريخ .

   وهناك مارسوا بعض المهن والحرف واكتسبوا بعض ثقافة العمل. ومثل هذا الامر قد يكون له أثره على بعض تعز المكان، أو بعض تعز  الإنسان؛ لكنه لا يكفي لننسب إلى تعز أكثر مما يقول واقعها. ونزعم لها من الخوارق ما يكذبه الواقع. ونخرج عداها من التاريخ الوطني. فلو كانت تعز تحمل في تراثها الوعي المدني وتحقن مواليدها بالحضارة لكان علينا ان نضع هذه المدينة تحت المساءلة فأبناؤها ينتشرون في عموم أرجاء الوطن ومع ذلك لا ينظر لهم أي تأثير خارق في تمدين المجتمع.  وسواءٌ كان ذلك بسبب السلطة أو بسبب غيرها، فمن المفترض أن تُحدِث تعز التغيير المنشود وتدفع بالوطن إلى أفق التقدم، ومواكبة العصر. مستغلة تفوقها ديموغرافيا. هذا طبعا إذا افترضنا أن تعز  مركز التغيير.

وفي السياق الثقافي قد يكون لمدينةٍ ما بسبب موروثٍ طويل بعض التراكم الثقافي، أو التنوّع لكونها كانت حاضرة سلطة سياسية مثقفة، مثلما هو الحال مع تعز أيام الدولة الرسولية. و تلك أمورٌ لو نظرنا فيها، لوجدناها خاضعة لتقديرات نسبية، وظروف متغيِّرة، وعوامل عديدة. وقد ترث بعض المدن آثاراً حضارية عريقة؛ لكنها لا ترث الحضارة، فالأبنية الشامخة لا تصنع وعياً حضارياً، ولا تكسب ساكنيها سلوكاً حضاريا، ومثلما تنقرض الأنواع بيلوجياً، تنقرض السلوكيات إنْ لم تجد تنمية وتعهداً ورعاية وعناية.

و امتداد لمزاعم تميّز تعز على غيرها هناك من ينسب لها الثقافة ويسميها عاصمة الثقافة. وهي من المقولات التي ترشو أبناء المكان وتوهمهم بمميزات ليست حقيقية فالثقافة ليست فعلا يحتكره مكانٌ أو تتوارثه جهةٌ جغرافية جيلاً عن جيل. ولا امتيازا لا يتقادم عليه الزمن.

  وليس هناك مدينة أبدية للثورة وأخرى أبدية للسلطة، وإذا حدث أنّ مدينةً ظلت لزمنٍ طويل مركزاً لحدث بعينه دون غيرها من المدن الأخرى؛ فهذا دليلٌ على أن المجتمع يعيش أزمة اندماج، ويفتقر لقيمة التعايش. ويعاني الركود والانغلاق والجمود والانكفاء، وهو أسير العزلة والتقوقع. أي أنه ممزقٌ نفسياً وإنْ بدا أنه متحدٌ جغرافيا. وهذا المجتمع في واقعه مجتمعاتٌ لا مجتمع واحد، مجتمعاتٌ تعيش في جزرٍ معزولةٍ بعضها عن بعضها الآخر، تمارس ضد بعضها شوفينية و توجسا وتمييزا. وهذه الممارسات حجة دامغة على أن الدولة لا تقوم بدورها. بل إنه أبرز تجليات تغوّل السلطة على المجتمع، وسعيها الممنهج للتفرقة و التجزيء، والعزل والتحييز.

و أكثر من ذلك أن المجتمع الذي ينكفىء على نفسه بزعم الحفاظ على الخصوصية. هو من أكثر المجتمعات استعداداً للتشرذم والتشظي في أي لحظة. ومن أكثر المجتمعات جاهزية للاستعداء والعنصرية والتردي في هوة الهويات الصغرى، ومن أكثر المجتمعات بدائيةً وممانعة أمام القيم المدنية والوعي بالدولة.

وهذا يعني أن مقولاتٍ مثل مقولات أصحاب تعز، وأصحاب عدن، وأصحاب “مطلع “وأصحاب “منزل”، و أصحاب الجنوب وأصحاب الشمال، وأصحاب صعدة وأصحاب تهامة…. إلخ، هي من جنس مقولات تحييزية أخرى مثل زيود و شوافع، و”دحابشة ” و” لغالغة” و “براغلة” و ” جبالية” و ” حضارم” … إلخ،  وهي مقولات تخفي وراءها تنميطاً وتعميماً بغرض التمييز والفرز، و أحياناً التحشيد و الـتأليب والقطعنة. وهو ما يعني  ترسيخ  الشعور بالذات على أساس مناطقي، وجهوي، وما في حكمه مذهبياً وسلاليا، و الانطلاق من البعد المكاني لخلق ثنائية الأنا بمواجهة الآخر،  وهو ما يعني إيمان القائل بخصوصيةٍ متوهمة، كما يعني عدم الاعتراف بحركة المجتمع، و سيولته وتفاعله، وديناميته. وكل هذه المقولات المتحيزة تؤدي إلى شحنٍ عنصري و تهيئة للصدامات والحروب الأهلية؛ فهي مقولات استعدائية واستعلائية في آن، وتتضمن استتباعات لرغبة اقصائية، و عصبوية كامنة، كثيراً ما تطفو على السطح في ممارسات عدوانية وخطابات تمييزية تنضح كراهيةً وحقداً ورعونة، وتغذِّي المخيال المناطقي والجهوي بالأحكام الجاهزة وتنشّطه للضغائن غير المبررة. وتدمِّر العلاقات الانسانية وتنصب الحواجز النفسية بين الأفراد بحكم التنشئة المريضة، والصور الذهنية السلبية و سلطة الشائعات المعادية، مهما ادّعى مُدّعٍ انها تقسيمات ثقافية، و خصوصية فضاءت.

وتكشف هذه المقولات أن الإنسان لا يُعرف بكونه هو هو، مواطناً فرداً مسؤولاً عن تصرفاته،  وله اعتباريته القانونية، مميزاً بسلوكه الفردي وممارساته الشخصية وكفاءته العلمية، أو خبرته العملية، إنما بالمكان الذي ينسب إليه، وهذا البعد يلغي ما عداه من أبعاد شخصيته، ويجعله تابعاً عضوياً مستلبا ثقافيا ونفسيا. 

وبقدر ما تحتمل هذه المقولات من إدانة للسلطة الحاكمة التي لم تعمل على تثوير المجتمع، و دمجه وإزالة الحواجز النفسية وتحرير التحيزات، وإزالة الطبقيات، وأوهام الامتيازات، و بقدر ما تكشف عن تغوُّل السلطة، ورعونتها و بدائيتها؛ تكشف أيضا عن مستوى غياب المسؤولية الفردية، وتدني الوعي عند مَنْ يتمثلها، أو يتمثل بها، وهي في مجملها منطوقات غرائزية؛ ليست من سلوكيات المدنية، ولا من ثقافة الدولة، سواءٌ قيلت في سياق المدح أو سياق الذم. وسواءٌ قيلت للتبرير أو للتحريض. وسواءٌ قيلت لضرب المثل أو للرشوة العاطفية.

قد يكون لتعز دورٌ ما، ولكن لا يكفي أن تكون مولوداً في تعز لتشعر بالتفوّق على الغير. أو تستشعر عصبية المكان وتدور برأسك خمرة الميتافيزيقا الملوثة بالشعارات العمياء.


Google Newsstand تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news


تابعنا على يوتيوب

تابعنا على تويتر

تابعنا على تيليجرام

تابعنا على فيسبوك

ترامب يهين زعيم دولة عربية ويمسح بكرامته الأرض

المشهد اليمني | 1074 قراءة 

بالاسماء: سقوط رؤوس الأفعى في المهرة.. القبض على أبرز أذرع الحريزي والحوثي بدعم عُماني

نافذة اليمن | 722 قراءة 

عاجل: زحف عسكري كبير صوب المهرة

كريتر سكاي | 653 قراءة 

ضربات بعمق الحوثيين: هل بدأت المعركة الحقيقية؟ عمان تنسحب والحديدة على وشك السقوط

نافذة اليمن | 617 قراءة 

هل بدأت أوراق الجماعة تتساقط؟.. الكشف عن انشقاق مسؤول بارز عن الحوثيين ووصوله إلى القاهرة.. الاسم والصورة

يني يمن | 444 قراءة 

ضربات بعمق الحو..ثيين: هل بدأت المعركة الحقيقية؟ عمان تنسحب والحديدة على وشك السقوط

صوت العاصمة | 430 قراءة 

اعتقال جلال الرويشان.. تفكك داخلي يضرب الحوثيين في صنعاء

جهينة يمن | 428 قراءة 

فرار قيادي حوثي بارز إلى القاهرة بعد خلافات حادة مع قيادات الجماعة

العرش نيوز | 296 قراءة 

أردنية تفضح مسرحية الحوثي في البحر الأحمر: سرديات مقاومة معلّبة وفوضى خلاقة برعاية دولية

نافذة اليمن | 278 قراءة 

بأمر أبو زرعة المحرمي.. ألوية العمالقة تتحرك للمهرة لمواجهة الحوثيين والحريزي بعد اعتقال الزايدي

نافذة اليمن | 272 قراءة