من الطيارة إلى البيارة "قصة قصيرة"

     
عدن حرة             عدد المشاهدات : 162 مشاهده       تفاصيل الخبر       الصحافة نت
من الطيارة إلى البيارة "قصة قصيرة"

عيدروس نصر

التلميذ ياسين خالد أبو الفداء يمثل شعلةً من الذكاء المتَّقد والطاقة المتجددة والعبقرية النادرة وهو مشهور بهذه الصفات في المدرسة والحارة بل وفي مركز المديرية.

عندما أعلنت نتائج الثانوية العامة حاز التلميذ ياسين على المركز الأول على مستوى الجمهورية بمعدل نجاح 98%، . . تنفس الصعداء وتيقَّن من أن حلمه الأزلي في أن يصبح عالم حاسوب على وشك التحقق خاصة وأن السياسة القائمة في البلد تقتضي منح المتفوقين التخصصات التي يرغبون بها وإعفائهم من عام الانتظار لبدء الدراسة الجامعية كجزء من التحفيز للطلاب على التفوق.

كانت العقبة الأولى التي واجهته هي إن القائمين على إدارة البعثات الخارجية اعتذروا له عن إعطائه منحة في المجال الذي طلبه وذلك لأنه لا توجد منح خارجية بهذا التخصص ولكنهم خيروه بين دراسة الطيران أو الهندسة المدنية أو دراسة السكك الحديدية أو هندسة حدائق حيوان.

لم يجد في أي من هذه التخصصات ما يلبي رغبته فهو لا يريد سوى دراسة الحاسوب هذا التخصص الحديث الذي سلب عقول المتفوقين في جميع أنحاء العالم، وهو ما دفعه للعودة إلى القرية معلناً التخلي عن الدراسة الخارجية لهذا العام على أمل انتظار الفوز بمنحة في هذا التخصص العام القادم، وقد عرف فيما بعد أن هناك الكثير من المنح الدراسية في مجال الحاسوب غير أنه قد تم توزيعها على أبناء المسئولين والمقربين.

بيد أن أباه (وهو معلم ابتدائي وفدائي سابق) وبعض المتعلمين من أبناء القرية نصحوه بالقبول بأي تخصص من التخصصات المعروضة أفضل من الانتظار إلى العام القادم، وزاد أن تدخل عضو مجلس النواب من دائرته الانتخابية الشيخ عفيف الذي قال له:

- إذا كنت تريد نصيحتي فأنا أفضل لك الطيران هذا العام على الحاسوب في العام القادم.

- ولكنني كنت أود الانتظار إلى العام القادم ربما تأتي منحة في الحاسوب، فإذا لم أوفق أخذت تخصص طيران.

قال الطالب يا سين.

- يا ابني من يدريك أنك في السنة القادمة قد لا تجد منحة في الحاسوب وربما خسرت منحة الطيران لأن الفساد والمجاملة آخذين في الازدهار والتطور... إذهب يا ابني للدراسة وأنا على استعداد لمساعدتك عند الجهات المختصة الآن وفي أي وقت لاحق.

عاد التلميذ ياسين إلى منزله وراجع حساباته ووجد أن النائب عفيف على حق فمن يضمن له أن تنتظره حتى منحة الطيران إلى العام القادم؟ ولذلك حزم أمره للعودة إلى العاصمة لاستكمال إجراءات السفر للدراسة في العاصمة الفرنسية باريس وقد كان النائب عفيف عند وعده حيث ساعده في المتابعة وإنجاز المعاملات في أقصر وقت.

كان الطالب ياسين من الطلبة المتفوقين في الجامعات الفرنسية فقد أتقن اللغة بوقتٍ مبكر وبدأ ينافس المتفوقين من الطلاب الفرنسيين أنفسهم، وساعدهُ هذا على الاشتراك في العديد من الندوات وورش العمل والمؤتمرات العلمية وتقديم العديد من الأوراق العلمية التي نالت إعجاب العلماء والباحثين وهذا بدوره مكَّنه من إقامة العديد من العلاقات الشخصية والعلمية مع الكثير من العلماء والطلاب والمؤسسات البحثية التي منحه البعض منها العضوية الشرفية.

لم تنقطع اتصالاته بأهله وبلده وكان يقوم بزيارة الوطن وعقد اللقاءات الشخصية والعلمية لدى بعض المؤسسات البحثية والعلمية والثقافية كلما أتيحت له الفرصة.

وكالعادة اهتمت الجامعة التي يدرس فيها ياسين بهذه الموهبة النادرة وعند التخرج اقترح القائمون على قسم التخصص أن يبقى ياسين للعمل كباحث متدرب في الجامعة لتمكينه من تحضير شهادة الماجستير والدكتوراه في التخصص، وزاد بعض أعضاء القسم إن اقترح منحه توصية للجهات الحكومية الفرنسية لمنحه الجنسية الفرنسية للاستفادة من إمكانياته العلمية، غير إن ياسين الذي شعر بالسرور والبهجة لهذا التكريم طلب منهم منحه فرصة للتفكير واستشارة الأهل وترتيب أموره العائلية والشخصية.

- أي مشاكل نحن على استعداد لمساعدتك على تذليلها.

قال له البروفيسور ميشيل رئيس القسم.

- وإذا عندك أي مصاعب مادية تأكد أننا كزملاء لك لن نتخلى عنك وستمنح لك المكافآت المالية التي تسهل لك حياة معيشية محترمة حتى تنجز شهادة الدكتوراه.

قال له المشرف العلمي تشارل.

وقد أيده في هذا معظم أعضاء القسم ومن لم يؤيده لم يجرؤ على الاعتراض فعبقرية ياسين كانت طاغية على أي اعتبارات جانبية من جانب من يشعرون تجاهه بالغيرة أو الحسد أو ممن لهم مواقف معادية للعرب وهم ليسوا قلة في الوسط الاجتماعي والأكاديمي في بلدان الغرب.

لم يجرؤ ياسين على البوح لهم بأنه يرغب في استشارة الجهات الحكومية المسئولة في بلده، بيد أنه سارع في الاتصال بأهله وذويه وأشعرهم بأن أمامه فرصة تاريخية للحصول على الدكتوراه والتمتع بالجنسية الفرنسية فضلاً عن الامتيازات المادية والعلمية التي سيحصل عليها بفضل هاتين الميزتين.

جن جنون أبيه وهو المناضل القديم ضد الإمامة والاستعمار وردَّ عليه بأنه إذا لم يعد فوراً لخدمة وطنه فإنه سيتبرأ منه إلى أبد الآبدين وسيدعو عليه بالغضب والسخط:

- وأنت تعلم ماذا يعني إغضاب الوالدين أمام الله سبحانه وتعالى.

- بس يا والدي إذا ما حصلت على الدكتوراه فسأخدم وطني بشكل أفضل وبكفاءة أعلى.

- كيف بكفاءة أعلى وأنت ناوي أن تحصل على الجنسية الفرنسية وناقص تقول أنك ستتزوج من واحدة فرنسية نصرانية.

- لكن يا والدي هذا لا يمنعني أن أعود وأشتغل في بلدي، فسيكون من حقي أن أتمتع بالجنسيتين اليمنية والفرنسية.

- أقول لك ارجع بدون نقاش وأي نقاش سيكون هنا عندي في البيت.

وأقفل خط التلفون في وجه ابنه.

لم يود ياسين إغضاب أبيه ولم يرغب في التخلي عن حلمه في الحصول على درجة الدكتوراه ولقب البروفيسور في علوم الطيران وربما علوم الفضاء بعد هذه الفرصة السانحة.

اتصل ياسين بالأستاذ عفيف عضو المجلس النيابي لاستشارته في الموضوع، ولكن هل كان عفيف أكثر دراية ببواطن الأمور من العم خالد (أبي ياسين)؟ الأدهى من ذلك أن عفيف قام يعاتب ياسين على مجرد التفكير بمثل هذه الفكرة (الخرقاء) كما وصفها ـ.

- هل نسيت وطنك وأهلك وشعبك الذي ينتظرك لترد جمايله عليك؟

- لا يا أستاذ عفيف أنا ما نسيت وطني ولكنني أشعر بأنني سأخدم وطني بشكل أفضل عندما أكون في وضعي الجديد؟

- هكذا أعداء أمتنا يستدرجون أفضل أبنائها وعلماءها ليحرموها من عطاءاتهم وخدماتهم العلمية.

- بس يا أستاذ عفيف أنا لن أتخلَّى عن أمتي ووطني، بالعكس سأعمل على تمثيل بلدي خير تمثيل وعندما تقتضي الضرورة سألبي نداء الوطن دونما تردد.

- أنا أكلمك وأنا أدرى بمصلحة الوطن وأقول لك إذا لم تعد سأشعر بالندم على المساعدة التي قدمتها لك للحصول على المنحة الدراسية.

تردَّد ياسين كثيراً وفكر كثيراً ولم يكن ما يهمه هو كلام النائب عفيف، بل غضب والده الذي يكنُّ له كل الحب والتقدير والاحترام كأب أولاً وكأحد صانعي الثورة الأوائل ثانياً، وبالرغم من عدم تخليه نهائياً عن فكرة مواصلة الدراسة والحصول على الجنسية الفرنسية فقد قرر العودة إلى البلد لمحاولة إقناع والده بالموافقة له على مواصلة الدراسة العليا.

وعندما عاد إلى البلد لم يكن والده قد خفَّف من استيائه منه ولم تفلح محاولات ياسين إقناعه بالسماح له بالعودة لمواصلة الدراسة ليصبح أوَّل رائد فضاء من هذا البلد، فقد كان منطق الوالد يمضي مخالفاً لمنطق الابن، فهذا يتحدث عن العلم والمستقبل والآفاق الرحبة التي ستفتح أمامه وذاك يتحدث عن خدمة الوطن والثورة والرجعية والاستعمار وأعداء الأمة العربية وكأن خدمة الوطن توقفت عند شهادة البكالوريوس.

ممثلهم في البرلمان الشيخ عفيف وكذا ممثلو الدائرة في المجلسين المحليين لم يكونوا أقلَّ عناداً من أبيه فقد اعتبرا مواصلته للدكتوراه وحصوله على الجنسية الفرنسية جريمة ترقى إلى مستوى الخيانة الوطنية.

- ماذا سأقول للوزير ومدير البعثات ووزير المالية الذين توسطت لك لديهم عندما يعلمون بأنك أخذت الجنسية الفرنسية؟ كيف أستطيع المطالبة بمنح أخرى لغيرك من الطلبة في المرة القادمة؟

قال الشيخ عفيف عضو البرلمان.

- بس يا شيخ عفيف هل تعتقد أنني سأتخلى عن وطني بحصولي على الجنسية الفرنسية؟ هل تعلم أنني سأكون أول عالم فضاء عربي؟

ولكن من أين لعفيف وأترابه أن يقتنعوا بوجاهة مثل هذه الحجج؟؟ لقد تربوا وكبروا على نظرية المؤامرة وإن الغرب كله أعداء للأمة العربية، ناهيك عن عدم تقديرهم للفرق بين الطيار وعالم الفضاء أو الفرق بين شهادتي البكالوريوس والدكتوراه.

لم يكن أمام ياسين سوى العودة إلى فرنسا لأخذ وثائق النجاح وإنها معاملاته هناك للعودة والاستقرار طالما وحاجة الوطن تقتضي ذلك.

جميع الأساتذة وزملاء ياسين والباحثين العلميين والمعيدين في كلية الطيران المدني التي درس بها ياسين شعروا بالأسف لعدم بقائه لمواصلة الدراسات العليا وقد عبَّروا جميعاً عن هذا الشعور في حفل الوداع الذي أقاموه لياسين والذي دعوا إليه رئيس الجامعة وبعض الخريجين السابقين ممن أنجزوا الدراسات العليا وأصبحوا اليوم من أنشط الباحثين في علوم الطيران والفضاء.

- أشكركم على هذا الشعور.

قال ياسين وهو يلقي كلمته في ختام حفلة الوداع.

- وثقوا أنني لن أنسى ما حييت ذلك الفضل الذي لهذه الكلية وللجامعة ولكم جميعاً علي، وثقوا أنني سوف أكون خير ممثل لكم في بلدي من خلال تطبيق المعارف التي تلقيتها على أرض الواقع كما إن عودتي إلى بلدي لا تعني أنني لن أعود إليكم بل ربما مثلت هذه العودة مجرد محطة راحة لن ألبث أن أستأنف بعدها رحلتي العلمية من خلال العودة إلى هنا للحصول على الشهادات العليا فأنا خلقت للعلم ولا شيء غير العلم.

عصفت القاعة بالتصفيق وبدأ الحاضرون بتقديم الهدايا للكابتن ياسين واختلطت قبلات العناق بدموع بعض النسوة من البروفسورات والباحثات اللواتي حظي ياسين بتقديرهن وإعجابهن.

* * *

لم يدخر ياسين وقتاً بل ذهب مباشرةً لمؤسسة الطيران المدني للحصول على عمل لديهم وعرض شهادات التخرج وميداليات التفوق العلمي وبقية المستندات التي تثبت تفوقه، وقد طلبوا منه معادلة الشهادة أولاً للاعتراف بها وتطلب منه هذا حوالي ثلاثة أشهر اضطر خلالها للاستعانة بأصدقاء كثيرين كوسطاء لتسريع عملية إعداد وثائق المعادلة وعندما ذهب إلى مؤسسة الطيران مرة أخرى وعدوه بالنظر في الموضوع بعد ثلاثة أشهر أخرى.

أراد الكابتن ياسين أن يستغل الوقت ويستفيد من أحد معارف والده وهو أحد الموظفين في مكتب وزارة العمل ويدعى محمد الخضر غير أن هذا اعتذر له لعدم وجود وظائف شاغرة هذا العام، ولكنه وعده بتسجيل اسمه إلى بداية العام القادم.

- ولكنني لن أستطيع أن أضمن لك مهنة طيار.

قال الأستاذ الخضر وعلق ياسين.

- المهم عند بداية السنة القادمة سيكون لكل حادث حديث.

وانقضت السنة الأولى والثانية والكابتن يتنقل من مكتب إلى آخر بين وزارة العمل بمكاتبها المختلفة وبين مؤسسة الطيران المدني التي كانت تعتذر لعدم وجود شواغر، فلا هو نجح في العمل في تخصصه ولا حتى عثر على عمل آخر يدبِّر منه مصاريفه ويساهم مع والده في تدبير مصاريف الأسرة، ولم يكن معه إلا العودة إلى صديق والده في مكتب وزارة العمل الذي قال له.

- للأسف لقد تأخرت يا كبتن ياسين لقد كان لدينا وظائف شاغرة لمدرسين ولكن تم توزيعها ولم يبق معنا إلا وظيفة شاغرة واحدة وهي مدير شبكة مياه الصرف الصحي في عاصمة المحافظة لأن المدير السابق توفَّى ونحن نبحث له عن بديل... (ثم هامسا).. بيني وبينك نوابه كلهم لا ينفعون، ونحن نريد واحد جامعي مثلك...

- ولكن أنا لا أعرف شيئاً في الصرف الصحي، أنا خريج طيران كما تعلم.

- يا راجل!... ومن في هذا البلد يشتغل الشغل الذي يفهم فيه،... المهم دبر لك مصاريف البيت وبعدين با يحلها الحلَّال.

وفكر الكابتن ياسين قليلاً، ولكنه طلب من الأستاذ الخضر فرصة لكي لا يتخذ القرار على استعجال.

وفي الأسبوع التالي وبعد مضي ثلاث سنوات على تخرجه وافق الكابتن ياسين على تولي مهام مدير شبكة الصرف الصحي في المدينة.

وقد أدار الكابتن ياسين عمله بنجاح واقتدار بالرغم من اختلاف تخصصه فكان يشرف بنفسه على سير العمل في الأقسام والمكاتب وحتى في الشوارع.

وفي أحد الأيام كان ياسين يرافق العمال في معالجة إحدى البيارات التي غالباً ما تتعرض للانسداد مسببةً الكثير من الإزعاج للأهالي وبينما كان واقفاً عند فتحة البيارة يشاهد كمية المياه المتدفقة إلى الشارع تعثر قدمه وسقط إلى داخل البيارة وعندما حاول العمال إنقاذه لم يفلحوا فقد غاص عميقاً في قاع الوحل وكان يتعمق أكثر كلما حاول الاندفاع إلى الأعلى ولم يأت العمال بوسائل الإنقاذ إلا بعد أن فارق الكابتن ياسين الحياة.


Google Newsstand تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news


تابعنا على يوتيوب

تابعنا على تويتر

تابعنا على تيليجرام

تابعنا على فيسبوك

مراسل وكالة أمريكية: السعودية تتهرب من الحل الجذري في اليمن وتسعى لإحياء أنظمة ما قبل الدولة

نافذة اليمن | 630 قراءة 

مصادر دولية تؤكد؛المجلس الانتقالي الجنوبي يحصل على الحكم الذاتي بتفويض أممي غير مسبوق

صوت العاصمة | 553 قراءة 

كهرباء عدن ستعمل ٢٤ ساعة بهذه الحالة

كريتر سكاي | 525 قراءة 

"الإسقاط الجنسي" سلاح عصابة الحوثي ضد خصومها .. مأرب أنموذجا

المنتصف نت | 503 قراءة 

الحوثي يعلن رفض قرار مجلس الأمن ويطالب بتمثيل أممي وسط صمت دولي والشرعية ترد عليه بقوة

نافذة اليمن | 490 قراءة 

بسبب معاكسته لزوجته.. مواطن يقدم على جريمة مروعة بحق شاب في تعز(شاهد)

كريتر سكاي | 463 قراءة 

باسم العار.. عصابة تهاجم رجلاً وزوجته في الشارع العام بصنعاء

المشهد اليمني | 383 قراءة 

"بي-2 في اليمن".. هل يحضّر ترامب ونتنياهو مفاجأة للحوثيين؟

نيوز لاين | 311 قراءة 

أول دولة مسلمة تتخذ خطوة حاسمة: حظر النقاب والبرقع يدخل حيّز التنفيذ

المرصد برس | 289 قراءة 

تصاعد التوتر بعد اغتيال عضو من آل الأحمر.. قبائل عمران تطالب بتحقيق عاجل

نيوز لاين | 274 قراءة