من السهل أن يشعر الإنسان بفقد الأشياء حينما يكون على مقربة منها، كأن يفقد ظل شجرة كان يرتب واجباته المدرسية تحتها في عز الظهيرة، أو كأن يفقد شكل الورد ورائحة المشاقر حينما تمر عجوز بالقرب ويلاحظ غياب ذلك الأثر الطيب في خدها من المشاقر والزينة العطرة.
وفي اعتقادي، إذا لم يفقد المحب لون وطيب النرجس، والشذاب، الخطور، السواد، البياض، الريحان وغير ذلك، فبالتأكيد يصبح نكرة للحياة وللريف، خاصة محب الريف، لأن لا روابط أخرى تجمعه بذكرياته وحنينه إلا موروثه من نباتات المشاقر التي أصبحت تورد إلى عدن وصنعاء ومناطق ومدن أخرى كثقافة يلتقي عندها المحبون وتنتهي عندها وبها المتاعب.
وبعد هذه الفلسفة، وجدت نفسي جوار منزلنا أتأمل ما فقدناه من أضاميم المشاقر وهذا الشجن القروي الذي أصبحت تشتاقه المدن وتستدعيه لتزيين حياة من أحبوا ولم ينسوا شجنهم للطبيعة وعطرها، لكن ها هو البستان الذي كان ينعش صباحاتنا ومساءاتنا، لم يتبق منه إلا شجرتا الحناء وورد الربيع وهما آخر ما بقي من جهد أمي وحبها للأرض، وآخر ما بقي من ذاك الانتماء الذي زرعناه بأيدينا ورعيناه بماء دلاء الآبار البعيدة شرقا وغربا في قرية الحجر بعزلة الجبزية في معافر تعز.
قد يقسو الموسم من عام لآخر على بعض الأغصان، على شجرة ما مزهرة، على وردة صغيرة عاجزة عن النمو كأخواتها في منحدر ما وقد تنسى شجرة حناء يابسة أرهقها تأخر موسم الربيع وقد تموت ريحة طيبة في بطن الأرض بينما كانت مندفعة نحونا بحب، ومن الممكن أن تكون ثمة نبتة عالقة في فوضى النمو غير المستقيم، لكني لن أقسو، ولم أنس زهر الرمان في بستان بيتنا، ولن أفعل ذلك أيضا مع زهرات الحب الربيعية ومشاتل الورد والياسمين التي كانت تتفتح كل عام بجانب شبابيك منزلنا القديمة.
الإنسان الذي يحب لا ينسى، وأنا لا أنسى مطلقا، نعم، لن أنسى، لأني لا زلت أتذكر جالونات المياه التي كنت أجلبها بعد انتهاء المدرسة يوميا من أجل ذلك البستان الذي غاب فجأة عنا دون حالة وداع أو تعب، وغياب كهذا يصعب تجاوزه، لأن الأرض لا تفرط بمن أحبها بهذه القسوة.
هذا العيد، وجدت الحناء تتفتح من جديد، وغصون شجرة الربيع تدفع نفسها بقليل من الارتواء نحو السماء وإني أخشى عليهما من زمن يشغل فيه العالم الحديث بتغير المناخ وكوارث الطبيعة وأحزن أكثر على أمي وهي تراقب بستانها ينكمش ويفقد زهرا كان يشبهها.
المهم الآن أن شجرتي الحناء وورد الربيع ما زالتا تتشبثان بالحياة، تكابران أمام الجفاف ونزف الآبار، هذا يشعرني بالفرح، فرح العودة إلى الحياة، هناك في ركن صغير من منزلنا.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news