مع تصاعد الهجمات الإسرائيلية المباشرة على العمق الإيراني، وتحول الصراع إلى مواجهة مفتوحة تستهدف البنى التحتية النووية والعسكرية لطهران، يبرز سؤال جوهري: أين اختفت أذرع إيران المسلحة في العراق؟
ويُقدَّر عدد الفصائل المسلحة التابعة لإيران في العراق بأكثر من 60 فصيلاً، تضم مئات الآلاف من المقاتلين الشيعة، وقد تعزّز نفوذ هذه الأذرع بشكل ملحوظ بعد مشاركتها في العملية السياسية والعسكرية التي أعقبت التدخل الأميركي عام 2003، ما مكّنها لاحقاً من فرض حضورها الأمني والسياسي داخل الدولة العراقية وامتد إلى خارجها.
وخلال العقدين الأخيرين برزت ميليشيات الحشد الشعبي (التي تشكلت بدمج عدد من الفصائل)، وكتائب حزب الله، والنجباء، وغيرها من الفصائل المسلحة في العراق كلاعب رئيسي على الساحة المحلية وفي مناطق خارج الحدود بدعم إيراني، وصار كثيرون يرون أنها صاحبة الذراع الطولى متقدمة على الجيش العراقي.
ورغم فداحة الأضرار التي تعرضت لها إيران خلال الأيام الماضية، التزمت الميليشيات العراقية الصمت إلى حدّ كبير، واكتفى عدد قليل من أذرعها بتقديم التعازي لطهران عبر وسائل التواصل الاجتماعي، والتنديد بالعمليات، مع وعود بتقديم مساعدات إغاثية.
ودعا زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر إلى تسيير "موكب مساعدات" لإيران، في حين صدرت دعوات محدودة من هذه الميليشيات إلى "طرد القوات المعادية من البلاد على وجه السرعة"، بلهجة أقل حدة مما كانت عليه هذه الميليشيات قبل سقوط حزب الله اللبناني وفرض واقع جديد في سوريا.
واكتفت الحكومة العراقية الحالية، إلى جانب بعض قيادات الميليشيات، بإدانة خجولة لما قالت إنه "استخدام الأجواء العراقية في الهجوم على إيران"، وسط مطالبات بإدانة ذلك وتحذيرات من توسع رقعة الحرب وأعلنت تضامنها مع طهران.
وتُعدّ الميليشيات المسلحة في العراق أقرب الأذرع الشيعية إلى إيران، وكان يُعوّل عليها أن تشكّل خط الدفاع الأول في مواجهة الهجمات الإسرائيلية المدمّرة ضد إيران، لا سيما بعد تدمير قوات حزب الله في لبنان، واقتلاع النفوذ الإيراني من سوريا.
ويبدو أن موقف هذه الميليشيات خيّب آمال طهران، في المقابل، أظهر الحوثيون في اليمن ولاءً أكبر لها، إذ أعلنوا صراحة دعمهم لعملياتها ضد إسرائيل، وتوعّدوا بشنّ ما وصفوه بـ"حرب مفتوحة" ضد الكيان الإسرائيلي وشنوا هجمات متزامنة خلال الأيام الفائتة وإن كانت محدودة، بينما اقتصر ردّ فعل حزب الله في لبنان على بيانات التنديد والتعزية في سقوط نخبة القيادة العسكرية والأمنية في طهران.
لا صواريخ ولا طائرات مسيّرة انطلقت من العراق، ولا حتى مناوشات لإعاقة وإرباك الطائرات الإسرائيلية المسيّرة والمقاتلات التي تجوب الأجواء العراقية بشكل يومي، بل وصارت أجواؤها محطة لتزود المقاتلات الإسرائيلية بالوقود.
مشاركات عسكرية عابرة
منذ السيطرة على العراق، تولّت هذه الجماعات تنفيذ عمليات محدودة ضد القوات الأجنبية داخل العراق خلال الأعوام القلية الماضية، كما لعبت دوراً محورياً في قمع الاحتجاجات الشعبية، مرتكبة انتهاكات جسيمة بحق معارضيها، إلى جانب الحملات الممنهجة ضد رموز نظام الرئيس الأسبق صدام حسين وضد مراكز القوة العراقية التي لا تسير في فلك الهيمنة الشيعية على البلد.
وعلى مدى أكثر من عقد، انخرطت هذه الميليشيات في أنشطة عابرة للحدود، بدعم مباشر من إيران وتمويل مستمر من ثروات العراق ، وقد تجلّت أبرز مشاركاتها في كل من اليمن وسوريا.
ومن دون تبنٍّ صريح، كانت هذه الميليشيات، في الغالب، تستهدف بشكل متقطع القوات الأمريكية وقوات "التحالف الدولي ضد داعش" في كلٍّ من العراق وسوريا. إلا أن وتيرة هذه الهجمات تصاعدت بشكل ملحوظ بعد اغتيال قائد "فيلق القدس" قاسم سليماني، الذي كان يُعدّ بمثابة الأب الروحي لأذرع إيران العسكرية خارج حدودها، وبالأخص في العراق.
ورغم هذا التصعيد، لم تُحقق تلك العمليات نتائج تُذكر، غير أن نطاقها توسّع مؤخراً ليشمل الأراضي الأردنية، حيث أسفر هجوم في مطلع عام 2024 عن مقتل ثلاثة جنود أمريكيين في احدى القواعد العسكرية.
"استهداف إسرائيل"
بعد مرور أكثر من عام ونصف على بدء العدوان الإسرائيلي على غزة، ظهرت الفصائل الشيعية المسلحة في العراق كلاعب محدود على الساحة، حيث نفّذت عمليات قصف تكررت عدة مرات ضد "إسرائيل" في الأراضي المحتلة .
وبررت هذه الفصائل عملياتها بأنها دعم للمقاومة الفلسطينية في غزة امتداداً لهجمات نادرة ضد قوات خارجية في سوريا والعراق والأردن، إلا أن هذا النشاط لم يبدأ فعلياً إلا عقب استهداف إسرائيل للقنصلية الإيرانية في دمشق، حيث انطلقت أولى الضربات من العراق نحو "إسرائيل" في أبريل 2024، أي بعد أيام قليلة من قصف القنصلية الإيرانية بالعاصمة السورية.
وأُحصي تنفيذ نحو 75 هجوماً من الميليشيات الايرانية في العراق، تضمّن كلٌّ منها عدّة ضربات، بحسب ما ذكرته "بي بي سي"، ونفذت أغلب هذه الهجمات باستخدام صواريخ "كروز" وطائرات مسيّرة هجومية متنوعة، ويُرجّح أن هجوماً واحداً أو اثنين منها فقط تسبب بأضرار.
وقد توقفت هجمات الميليشيات العراقية بشكل عام داخلياً وخارجيا نهاية 2024.
المشاركة مع الأسد
شارك عشرات الآلاف من عناصر الميليشيات الشيعية في القتال إلى جانب النظام السوري وحزب الله اللبناني وفصائل مسلحة شيعية من دول أخرى، خلال الحرب التي امتدت لما يزيد عن عقد من الزمن في سوريا. وقد بقي عدد كبير من هؤلاء المقاتلين، إلى جانب ميليشيات أخرى، حتى سقوط نظام بشار الأسد أواخر العام الماضي.
في أعقاب التحولات في سوريا، أطلق قادة تلك الميليشيات تهديدات صريحة بإعادة التدخل العسكري في سوريا، بعد أن سيطرت فصائل المعارضة على العاصمة دمشق، وفرّ الأسد من البلاد، وتم تشكيل حكومة جديدة.
وبلغ الأمر أن الحكومة العراقية نفسها لوّحت بإمكانية تدخل عسكري مباشر في سوريا، حيث منحت الميليشيات الشيعية غطاءً رسمياً للوجود هناك، بزعم مواجهة ما وُصف آنذاك بـ"جبهة النصرة"، تحت مبرر حماية الأمن القومي العراقي ومنع انتقال الفوضى إلى الداخل العراقي.
وأصدر تحالف "الإطار التنسيقي" الحاكم في العراق – والذي يضم القوى والفصائل الشيعية المتحالفة مع إيران – بياناً أكد فيه أن ما يجري في سوريا هو "احتلال من قبل الإرهابيين"، وذلك مع تقدم قوى المعارضة.
ويُقدّر عدد مقاتلي الميليشيات الشيعية الذين شاركوا في القتال دفاعاً عن نظام الأسد بعشرات الآلاف، وتشير تقديرات إلى ما لا يقل عن 1800 عنصر قتلوا هناك، في ظل تكتم تفرضه الفصائل التي دفعت بهم نحو الجبهات السورية حول الأعداد الحقيقية لمن لقوا مصرعهم في الحرب التي استمرت لأكثر من 10 سنوات.
القتال في اليمن
ومنذ اندلاع الحرب في اليمن عام 2015، لعبت الميليشيات الشيعية العراقية الموالية لإيران دوراً تصاعدياً في دعم ميليشيا الحوثي عسكرياً، لوجستياً، ومالياً، ضمن ما يُعرف بـ"محور المقاومة" الذي تقوده طهران إقليمياً، وكانوا أول من أعلن ذلك. ووصل الأمر الى انشاء معسكرات مشتركة على حدود السعودية (جنوب العراق)، وضرب المملكة بطائرات مسيرة باسم الحوثيين.
وأكد تقرير صادر عن فريق الخبراء التابع للأمم المتحدة أن الميليشيات العراقية بدأت منذ وقت مبكر في إرسال مقاتلين وخبراء عسكريين إلى اليمن، للإشراف على تدريب الحوثيين ونقل التكنولوجيا العسكرية إليهم، والمشاركة في العمليات القتالية إلى جانبهم.
ولفت التقرير نقلاً عن مصادر سرية إلى أن قوات الحشد الشعبي العراقي وفّرت تدريبات عسكرية لعشرات المقاتلين الحوثيين في مركز جرف الصخر، جنوب بغداد بما فيها قيادات حوثية تقود معسكرات حوثية في محفاظات حجة والحديدة.
وفي تعليق له على اختفاء دور هذه الميليشيات في هذه الحرب قال الصحفي العراقي عثمان المختار: "ستُدرك إيران أن الخطأ الأكبر لها بالعراق، عندما سمحت لزعماء المليشيات تكوين ثروات والدخول بالتجارة والاستثمارات، لدرجة أنهم لم يعودوا بحاجة لدعمها مالياً، ولا عندهم استعداد للتخلي عن كل هذا النعيم الذي لم يحلموا به من أجلها. والدليل الدم النازف في طهران منذ أيام ودفاعهم عنها بالتغريدات!".
وأشار المختار في حسابه على منصة "إكس" إلى أن "استثمارات أصغر زعيم مليشيا بالعراق حاليا تُعادل ضعفي ثروة أي تاجر بالخليج!".
ونقل موقع العربي الجديد عن النائب المستقل في مجلس النواب العراقي، سجاد سالم، قوله إن عدد عناصر هيئة الحشد الشعبي وحده (هناك فصائل أخرى" ارتفع إلى نحو 236 ألف عنصر، بعدما كان 60 ألفاً فقط في عام 2014.
وأشار سالم إلى أن التمويل السنوي المخصص للحشد الشعبي ارتفع أيضاً من تريليون دينار عراقي واحد إلى ثلاثة تريليونات دينار، علماً بأن سعر صرف الدولار الرسمي يبلغ 1320 ديناراً عراقياً.
ورغم التدخلات الخارجية المتكررة والأعداد الكبيرة لهذه الميليشيات والدعم المالي الضخم الذي تتلقاه، إلا أنها لم تتخذ حتى الآن أي موقف يُذكر تجاه الجهة التي أنشأتها، بالرغم من مرور نحو أسبوع على بدء الهجمات ضد إيران.
ويأتي هذا التراخي في وقت تتصاعد فيه التقديرات حول مساعٍ أمريكية وإسرائيلية تهدف إلى تغيير النظام الإيراني كأحد الأهداف الأساسية لهذه الحرب.
ويسود قلق لدى بعض المسؤولين في بغداد من احتمال أن يمتد التصعيد إلى العراق، لتغيير الوضع القائم، بحسب ما أوردته وكالة "رويترز"، في إشارة الى تحكم الميليشيات هناك بقرار الدولة وبكل مفاصلها.
ونقلت الوكالة عن وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين قوله إن بغداد تسعى لإقناع فصائل مسلحة قوية، سبق أن خاضت مواجهات مع القوات الأمريكية وأطلقت صواريخ وطائرات مسيّرة على إسرائيل، بالتخلي عن سلاحها أو الاندماج ضمن القوات الأمنية الرسمية.
رغم أعدادها الكبيرة والترسانة الضخمة ومشاركاتها الواسعة خارج الحدود خلال السنوات الماضية، إلا أن الميليشيات الإيرانية في العراق لم تقدم شيئ يذكر
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news