ورقة قدمها د.علي صالح الخلاقي، رئيس الدائرة الثقافية بالنقابة إلى الوقفة التقييمة التي نظمتها نقابة الصحفيين والإعلاميين الجنوبيين بالتنسيق مع إدارة المكتبة الوطنية في عدن الأربعاء، 6يونيو 2025م
مقدمة
تحمل المكتبات في وجدان الأمم قيمةً تتجاوز حفظ الكتب أو إتاحة المعرفة، فهي موئل الذاكرة، ومختبر الوعي، ومنارة إشعاع علمي وثقافي. وتعدّ المكتبة الوطنية في العاصمة عدن من أبرز الرموز الثقافية الراسخة في الوجدان الأكاديمي والبحثي، بما أتاحته من بيئة معرفية ثريّة، وتجربة وجدانية عميقة لمن ارتادها منذ سنوات التأسيس، حتى عطلتها نتائج الحرب الظالمة التي تعرضت لها بلادنا عام 2015م، وما زالت تعاني من تبعاتها حتى اليوم.
المكتبة في الذاكرة الأكاديمية
شكّلت هذه المكتبة ملاذًا هادئًا وجوًا مهيّأً للبحث والاستقصاء، لا سيما لطلاب الدراسات العليا والباحثين في مجالات التاريخ، واللغة، والتراث، والعلوم الاجتماعية وغيرها، الذين كانوا يعتمدون عليها للحصول على مراجعهم عند إعداد بحوثهم.
وقد كنت شخصيًا من روّادها الدائمين، ولا تزال تلك الصورة راسخة في ذهني: رفوفٌ تفيض بالكتب والدوريات، وأجواءٌ تغلفها السكينةُ، لا يُسمع فيها إلا رفيفُ الصفحات، ومكيفاتٌ تخفف وهج الصيف العدني القائظ، بينما الوقت يمضي دون أن نشعر..هكذا وفّرت المكتبة بيئة مريحة بفتح أبوابها صباحًا ومساءً، مما أتاح لمرتاديها اختيار الوقت الأنسب بحسب التزاماتهم، وكان هذا أحد أسباب استقطابها لجمهور متنوّع من الأكاديميين والطلبة والقرّاء عمومًا.
المكتبة ومشروع البحث الشخصي
ارتبطتُ بالمكتبة وجدانيًا منذ افتتاحها، خصوصًا في بداياتي البحثية في التاريخ والتراث. وعندما شرعتُ في إعداد كتابي "الشائع من أمثال يافع"، قصدتُ رفوفها باحثًا عن إصدارات قديمة تقارن بين الأمثال الشعبية في مختلف مناطق بلادنا، فوجدت كنوزًا نادرة، منها على سبيل المثال:
قاموس الأمثال العدنية – تأليف: خان صاحب عبدالله يعقوب خان العدني، الطبعة الثانية، 1958، مطبعة إبراهيم راسم – عدن. أما طبعته الأولى فتعود لعام 1935 إن لم تخني الذاكرة.
الأقوال النقية في الأمثال العولقية – تأليف: محسن بن علوي بن فريد العولقي، مطبعة الهلال – عدن، 1358هـ.
وهذان مجرد نموذجان من مقتنيات المكتبة الثمينة، التي ما كنت لأعثر عليها لولا وجود هذا الصرح المعرفي، وبالمثل بالنسبة لبقية الباحثين، وأذكر منهم بشكل خاص زميلي الأديب والناقد والشاعر والباحث بروفيسور سالم السلفي الذي ربما كان أكثر من داوم في المكتبه واستخرج لنا من دورياتها التي تتبعها صفحة صفحة، كتابه المعجمي (وفيات عدن وما جاورها من المحميات والمحافظات وبلاد اليمن في الصحف الصادرة في عدن الجزء الأول(1940-1967)، ثم الجزء الثاني (1968-1985م) .
جذور تاريخية ومكانة ثقافية
تأسست المكتبة الوطنية في 14 أكتوبر 1980م، كأحد أبرز مشاريع التعاون الثقافي مع دولة الكويت، التي أهدتها للشعب الجنوبي. وقد ورثت محتويات مكتبة "مسواط" التي كانت تُعرف سابقًا بـ"مكتبة ليك" (1919–1953)، ومكتبة الجيش البريطاني، مما منحها بُعدًا توثيقيًا وتاريخيًا نادرًا.
وضمت المكتبة إدارات متعددة: التزويد، التصنيف، الميكروفيلم، إلى جانب أقسام الإعارة، والمراجع، والدوريات، والقانون، والطفل، والمراجع الأجنبية والمحلية، فضلاً عن قاعتي الفقيد لطفي أمان والكتب القانونية.
اعتمدت إدارة المكتبة نظام "إعارة الكتاب" لفترة زمنية محددة، وكان المؤلفون يهدون نسخًا من كتبهم للمكتبة. وشخصيًا، كنت حريصًا على إهدائها نسخًا من إصداراتي حتى تم إغلاق أبوابها، وها أنا اليوم أحمل عددًا منها أهديها بهذه المناسبة إلى صديقي مدير المكتبة الوطنية الأستاذ عبدالعزيز بن بريك.
نتائج الحرب وإغلاق المكتبة
كانت للحرب الكارثية التي شهدتها عدن في 2015م نتائج وخيمة طالت كل شيء، ولم تكن المكتبة الوطنية بمنأى عنها؛ فقد نالها النهب والتدمير، وتعرضت للإهمال، وسُرقت بعض من محتوياتها، وصولًا إلى إغلاق أبوابها حتى يومنا هذا.
ورغم ترميمها من قبل الهلال الأحمر الإماراتي بعد الحرب، إلا أنها عادت لتواجه الإهمال مجددًا؛ فقد سُرقت الأدوات المكتبية من داخلها، وأُتلفت المكيفات، وما زالت تفتقر إلى التجهيز بالأثاث والكتب التي تعوض ما تم نهبه. وعلى الرغم من المطالبات المتكررة بإعادة تأهيلها وفتحها، فإن الوعود الحكومية والثقافية ما تزال تراوح مكانها دون تنفيذ.
كما لم تعد المكتبة تحظى بالدعم اللازم من قبل وزارة الثقافة، ويشهد على ذلك الميزانية التشغيلية الضئيلة التي لا تسمن ولا تغني، ولا تكاد تُذكر. والأسوأ من ذلك أن المكتبة أصبحت في حالة يرثى لها بسبب الإهمال، وأضحت محاطة بمحالّ تجارية تبيع الأحذية والملابس الداخلية، في مشهد يسيء لقدسية المكان ويشوّه رسالته التنويرية. إن هذا الواقع يفرغ المكتبة من معناها، ويمس كرامة تاريخها العريق، ويجعل الزائر يعجز عن تمييزها كمؤسسة ثقافية رائدة.
خاتمة وتوصيات
إن المكتبة الوطنية بعدن ليست مجرد مبنى أو رفوف كتب، بل ذاكرة حيّة لتاريخ المدينة، وصوت هادئ للمعرفة وسط ضجيج الحياة. ومن واجبنا – كباحثين ومؤسسات ثقافية – أن نعيد تسليط الضوء على هذه المؤسسة، وندعو إلى:
1-دعم إعادة تأهيل المكتبة وتجهيزها فنيًا وتقنيًا وفتح أبوابها لاستقبال القراء والباحثين والمهتمين بالشأن الثقافي، لتستعيد مكانتها كمحراب للمعرفة وفضاء للتنوير.
2-إطلاق حملة وطنية لإحياء المكتبة وتفعيل برامجها الثقافية والأكاديمية.
3-رقمنة أرشيفها النادر لحفظه من التلف والفقدان.
4-تحسين ظروف العمل للعاملين فيها، لا سيما ما يعانونه من أتربة متراكمة وجوّ خانق جراء استنشاق الكتب القديمة والأتربة الناعمة ومنحهم علاوة التطبيب.
5-منح المكتبة الوطنية الاستقلال المالي والإداري كبقية المؤسسات الخدماتية والثقافية للاضطلاع بدورها الثقافي في إنارة الأجيال.
6-توفير المزيد من الكتب والدوريات، وتحديث خدمات البحث والفهرسة.
7-إدماج المكتبة في المشروع الوطني للتنوير الثقافي.
8-مطالبة الجهات المسؤولة، وعلى رأسها وزارة الثقافة، بالوفاء بالتزاماتها تجاه المكتبة، ودعوة المنظمات الثقافية كاليونسكو، ورجال الأعمال، وفاعلي الخير، إلى دعمها.
9- مخاطبة معالي الدكتور واعد عبدالله باذيب ، وزير التخطيط والتعاون الدولي بمذكرة رسمية للتوجيه بتشبيك المكتبة ضمن برامج المساعدات المقدمة من المنظمات الدولية المعنية بالثقافة والفكر والعلوم الإنسانية.
ختاماً
إن إعادة الاعتبار للمكتبة الوطنية في عدن هو جزء من استعادة هيبة العاصمة، وترسيخ مكانتها الثقافية والحضارية. ونرجو أن تجد صرختنا اليوم آذانًا صاغية لدى الجهات المعنية، لما فيه خير عدن وأهلها، وإنصافًا لإرث لا يجوز أن يُهمَل أو يُشوَّه، وأن تكون وقفتنا اليوم، في حرم المكتبة الوطنية، وفي ظل هذا الإهمال المريع وغياب أبسط مقومات العمل تحريكاً للمياه الراكدة، ولفت أنظار وزارة الثقافة الغائبة عن أحد أهم معالم الثقافة في العاصمة عدن. لعلها تبادر إلى إنقاذ هذا الصرح من حالة الموات التي يعيشها، وتعيد إليه وهجه ونشاطه المثمر، وتغذّيه بكل جديد، ليبقى حيًا في الذاكرة والواقع.
إننا بهذه الوقفة نحاول أن نحفظ للمكتبة الوطنية موقعها اللائق في خارطة الوعي، وأن نرد شيئًا من جميلها، لذاكرتها التي احتضنتنا يومًا، واحتضنت عِلْمنا.
د.علي صالح الخلاقي
رئيس الدائرة الثقافية بنقابة الصحفيين والإعلاميين الجنوبيين
عدن
4 يونيو 2025م
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news