د. محمد الحميدي
قال الرئيس كل شيء، دون أن يقول كل شيء. لم يكن بحاجة إلى الإطناب، فالكلمات التي نطق بها كانت كافية لبعث الأسئلة الكبرى من رقادها، وإعادة تموضع السيادة الوطنية في صدارة النقاش العام. في لحظة مكاشفة محسوبة، بدأ وكأن الصمت الذي تخلل العبارات أبلغ من القول نفسه؛ إذ لم تكن الغاية تعداد التفاصيل، إنما إزاحة الغبار عن الحقائق الجوهرية، وتوجيه البوصلة نحو ما ينبغي فعله قبل فوات الأوان.
ففي تصريحه الأخير، انكشفت طبقات عميقة من التهديد الذي بات يمس جوهر الدولة، حين تُرغم طائرة حجاج يمنيين على البقاء رهينة قرار جماعة مسلحة، ويتحول مطار من المفترض أن يكون بوابة للسلام إلى منصة للابتزاز السياسي والأمني. ليست تلك حادثة طارئة، ولا مجرد خرق مؤسف، ولكن ذروة مكثفة لاختلال مزمن يضعنا وجهاً لوجه أمام سؤال إلى أين نتجه باليمن؟! من يملك القرار؟ ومن يملك الردع؟
قد يرى البعض في تصريح الرئيس محاولة لإعادة تعريف الحوثي أمام العالم كقوة منفلتة من كل قيد، وربما كمقدمة لصياغة إجماع دولي جديد يضفي شرعية مضادة على تصنيف الجماعة كتهديد مستمر للسلام والأمن الإقليمي. فيما قد يقرأه آخرون كرسالة ضمنية للشركاء المحليين والدوليين، مفادها أن الدولة لم تعد تملك حتى رفاهية التظاهر بالقوة، وأن التجميل الدبلوماسي بلغ حد الإنهاك أمام واقع لا ينصاع للرغبات ولا يُدار بالبيانات. هكذا، يتجاوز التصريح حدود البلاغة إلى عمق السياسة، ويغدو التوقيت نفسه جزءًا من فاعلية الخطاب.
وما يُلفت في تلك اللحظة، أن الرئيس لم يكن يكتفي بوصف المشهد، إنما كان يبعث برسالة مركبة للداخل، بضرورة إدراك حجم الخطر دون إنكار أو تهوين، وللمجتمع الدولي، خصوصًا الجانب الروسي، بتنبيه جاد إلى عواقب ترك الملفات السيادية والأمنية رهينة منطق الميليشيا لا الدولة. في هذا السياق، لم يكن ما قيل مجرد تعبير عن امتعاض، ولكن خريطة تحذير مرسومة بلغة موزونة، تستبطن نداءً للمكاشفة، وتحمل في الوقت ذاته إشارات محسوبة لمن يعنيهم الأمر.
تُقاس السياسة بقدرتها على إحداث ديناميكية في المشهد الراكد، ومن هذا المنطلق، أظهر الحراك الدبلوماسي اليمني، منذ تولي حقيبة الخارجية قيادة أكثر ثباتًا وتنظيمًا، أثرًا واضحًا ومؤثرًا في المواقف الدولية. لم يعد الصوت اليمني في عواصم القرار مجرد تكرار أو صدى خافت، إنما أصبح خطابًا مدروسًا، يزن كلماته وما يريده بدقة، ويختار التوقيت بحكمة، ويتقن فن التأثير. إلا أن جوهر القضية لا يقتصر على بلاغة الرسائل، بل في القدرة على تحويلها إلى إجراءات فعالة تفضي إلى تحولات استراتيجية عميقة، تتجاوز حدود التفاعلات المؤقتة والمواقف العرضية.
الخطر الذي أصاب رمز الدولة لم يكن وليد لحظة عابرة، إنما نتاج تراكمات مستمرة من التنازلات المتعاقبة وتراجع إرادة الحزم، حيث استغل الطرف الانقلابي هذا الواقع ليترسخ كقوة مسلحة تفاوض وتبتز الداخل وتتلاعب بالخارج. وحادثة الطائرة ليست سوى تجل واضح لهذا الخلل السياسي المزمن، الذي امتد أثره منذ أن أصبح الانقلاب بندًا ثابتًا على أجندات التسوية، مرورًا بمسارات سلام لم تستطع أن تفرق بين مقتضيات السياسة وضرورات السيادة الوطنية.
لم نعد بإزاء ظرف انتقالي عابر، ولكن أمام حالة استثنائية ممتدة، تتداخل فيها التعقيدات المحلية مع التفاعلات الإقليمية، ويتقاطع عنف الجماعة المسلحة مع تحولات دولية مقلقة تمس أمن البحر الأحمر وخليج عدن وبقية الممرات الحيوية. وفي ظل هذا التشابك المتصاعد، تصبح المهادنة دون مراجعة استراتيجية عبئًا متزايدًا، إذ تؤدي إلى اتساع كلفة الانكماش الوطني وتآكل فرص استعادة الدولة، سياسيًا وأمنيًا وسياديًا.
من هذا المنطلق، لا تفي المكاشفة وحدها بالغرض ما لم تُترجم إلى تحول حقيقي في العقل والممارسة السياسية، يُعيد تعريف المرحلة بوصفها لحظة سيادية فارقة تتطلب قرارات استثنائية تُحاكي واقع الحرب الشاملة، وتستعيد جوهر الشرعية كفعل قوة لا كترخيص دولي. ويتطلب ذلك أيضًا مراجعة شاملة للمسار السياسي تضع حدًا للرهانات العائمة، وتعيد ضبط الشراكات وفق منطق لا يساوي بين الدولة والانقلاب، ولا يمنح الشرعية لمن يهدد كيانها. كما يقتضي الأمر تعبئة وطنية متماسكة تُعيد بناء جبهة مقاومة شاملة، تستند إلى وعي الضرورة لا مجاملة الشعارات، وتستحضر الثوابت كأدوات صمود، لا كأرشيف معلق في ذاكرة الإنهاك.
ما عبر عنه الرئيس لا يشكل خاتمة مكاشفة، إنما يشكل شرارة لانطلاق حوار جاد يتجاوز حدود المؤسسات ليصل إلى نبض الشارع، مستنهضًا وعيًا وطنيًا نائمًا منذ زمن. فالصراع اليوم تجاوز المواجهة مع جماعة مسلحة، ليصبح صراعًا مع منطق الانقلاب ذاته، وتأثيراته النفسية والرمزية التي تضعف الإرادة، وتشوش المعايير، وتحاصر الوطن داخل مساحة رمادية تتقاذفها حسابات المقامرة السياسية.
تعليقات الفيس بوك
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news