لا يمكن فهم قرار ترامب المفاجئ في اليمن ، بدون العودة لتتبع تطورات السياق الاقليمي على مدار الشهريين الماضيين. و تحديدا منذ مارس المنصرم حيث شهدت المنطقة قدرا من التصعيد المنضبط بين طهران و واشنطن ؛ والذي كان جزءً من "حرب اعصاب" سبقت انعقاد أولى جولات التفاوض غير المباشر بين الطرفين.
و خلال الجولة الأولى في مسقط بتاريخ 12 ابريل ؛ كان مطلوبا من عراقجي و ويتكوف تحديد جدول الاعمال من بين ثلاث ملفات خلافية : "البرنامج النووي ، البرنامج الصاروخي ، النفوذ الإقليمي".
نجحت طهران في تحييد البرنامج الصاروخي عن التفاوض باعتباره شأن سيادي ، وعوضا عن ذلك فقد قدمت لترامب عروضا استثمارية تصل الى ترليون دولار .
اما فيما يتعلق بالشأن الإقليمي ، فقد انفتحت ايران على التفاوض بخصوص نفوذها في العراق و اليمن و لبنان. لكن وبحسب مصدريين ديبلوماسيين عربي وغربي ، فان واشنطن رفضت ادراج الملفات الإقليمية ، و لاسيما اليمني ، في اجندة التفاوض، واكتفت بتركيز الحديث على الملف النووي حصرا.
على الأرجح فقد كان تقييم واشنطن يرى بأن الوضع الإقليمي بات نقطة ضعف لإيران عقب انهيار المحور ، وان ما تحاول طهران تسويقه كتنازلات ، هو في حقيقة الامر ضمانات سوف تأخذها من واشنطن كي تحافظ على ما تبقى من نفوذها.
لذا فانه وفور انتهاء جولة التفاوض الأولى ، وبعد ان رفض ويتكوف عرض عراقجي للتهدئة الاقليمية؛ استأنف الحوثيون تصعيدهم بصورة مكثفة ابتداءً من 13 ابريل ، و بدأوا يستهدفوا بصورة اكثر كثافة العمق الإسرائيلي و الأصول العسكرية الامريكية. لكن ذلك لم يمنع من حدوث تفاهم ضمني بين الطرفين على إدارة التصعيد المنضبط :
من جهة يلتزم الحوثي قواعد الاشتباك المفروضة عليه أمريكيا ، و من جهة أخرى تواصل واشنطن كبحها لتل ابيب عن استهداف الأصول الجيوسياسية لطهران في اليمن او في الداخل الإيراني.
و كلما كانت المفاوضات الإيرانية الامريكية تتقدم، كان الموقف العربي يزداد تمسكا بنهج التقارب السياسي مع ايران بدلا من ازاحتها جيوسياسيا على غرار ما جرى في سوريا. وهو ما تجلى من خلال التنسيق الديبلوماسي الإيراني المصري الوثيق في اعقاب كل جولة تفاوضية.
وكانت نقطة التحول الأهم مع زيارة الأمير خالد بن سلمان الى طهران و لقاءه بالمرشد الأعلى للثورة الإيرانية علي خامنئي . وقد سلم وزير الدفاع السعودي الى القيادة الإيرانية رسالة من الملك سلمان تحثها على استخدام نفوذها لكبح جماح الحوثيين، وخفض التوترات في البحر الأحمر وهي خطوة من شأنها أن تُسهم في تسريع الحوار الإيراني الأميركي.
ومع تراجع وعود العملية البرية المدعومة أمريكيا في اليمن ، بدا واضحا ان الرياض تنوي استثمار زيارة ترامب الى المملكة كي تستأنف الزخم السياسي لجهود الوساطة في اليمن ، لذا فقد كثف السفير السعودي في اليمن محمد ال جابر من حراكه الديبلوماسي موخرا مع القيادات السياسيةاليمنية و تم دعوة المبعوث الاممي الى الرياض.
وفي المقابل بدأت تل ابيب في نهاية ابريل تدشين "حرب الظل" عبر سلسلة انفجارات في الداخل الايراني .وقد ادرك ترامب ان استمرار التصعيد الأمريكي في اليمن يسمح بشكل غير مباشر بتهيئة البلاد كساحة لحرب الوكالة بين طهران وتل ابيب.
وهو ما جرى فعلا في بداية مايو عبر استهداف مطار بن جوريون بصاروخ بالستي ايراني قادم من اليمن ، وإعلان الحوثيين فرض حظر جوي على إسرائيل ، وقد سعت طهران بذلك الى الانتقام لانفجار بندر عباس وفرض معادلة ردع جديدة على قاعدة: "المطارات في مقابل الموانئ". والذي ردت عليه اسرائيل بقوة مفرطة لفرض حصار جوي وبحري عبر تدمين مطار صنعاء وميناء الحديدة.
كل هذه المتغيرات الاقليمية ، اضافة الى تزايد الجدل السياسي و الاعلامي في الداخل الامريكي حول جدوى الضربات العسكرية؛ دفع ترامب الى اعادت تقييم سياسته في اليمن.
و في بداية مايو الجاري ، وجه وزير الدفاع الأمريكي بيت هيغسيث تحذيرا حادا الى ايران متوعدا بانها سوف تدفع ثمن دعمها للحوثيين في اليمن. وقد مثل هذا التصريح رسالة ضمنية بجاهزية واشنطن للنظر بعرض ايران السابق حول التهدئة في اليمن.
وهو ما قد كان حينما اعاد الايرانيون طرح الصفقة على ويتكوف في مسقط نهاية الاسبوع الماضي. و نظرا لان هندسة الاتفاق هي بالأساس إيرانية أمريكية فان موقف الحوثيين كان أيضا اقرب الى المفاجأة وقد ظهر عليهم الارتباك في تبريره واعلانه.
لقد ارادت ايران ان تناور في اليمن لتحقيق هدفين ؛ من جهة تحمي أصولها الجيوسياسية من الضربات الامريكية الموجعة ، ومن جهة أخرى تعتقد ان بوسعها تحييد واشنطن عن مواجهتها الجديدة في الساحة اليمنية مع تل ابيب.
وطوال الفترة الماضية نجحت ايران في تحييد أمريكا عن القيام بضربة عسكرية ضدها ، لكن قد يبدو اسرافا بالطموح الاعتقاد بان بوسع طهران تحييد واشنطن للقيام بضربات امنية ضد إسرائيل. وعلى الأرجح فان المناورة الإيرانية سوف تكون قاصرة مالم تتضمن أيضا وقف التصعيد ضد إسرائيل وقبول فصل الجبهات مثلما جرى مع حزب الله وغزة.
وهنا تحديدا تكمن نقطة الضعف بالنسبة لجماعة الحوثي التي ما برحت قياداتها تصرح بمواصلة جبهة الاسناد. وخلال الايام القادمة اذا قرر الحوثيون الاكتفاء حصرا بهجمات من خلال المسيرات فانهم يهيئون بيئتهم لقرار وقف التصعيد. وفي حال نجح ترامب خلال زيارته للرياض باعلان صفقة في عزة فان ذلك سوف يمنح الحوثي نزولا امنا عن الشجرة.
اما إسرائيل فقد كانت تأمل بان تنسيقها الاخير مع واشنطن لشن ضربات في اليمن ، يقربها خطوة اضافية من تحقيق نفس السيناريو في ايران.
و قد راهن نتنياهو على انه حتى وان وجه ضربة موجعة للحوثيين في مطار صنعاء وميناء الحديدة فان ذلك لن يثنيهم عن مواصلة الهجمات ، وحينها تكون تل ابيب قد استنفدت كل الذرائع بخصوص الحوثي ولم يعد امامها سوى ضرب ايران مباشرة.
لكن نتنياهو تلقى من ترامب ثلاث ضربات موجعة : أولا لم يخبره الامريكان بوجود صفقة مع الحوثي ، و ثانيا لم يتضمن الاتفاق أي تطرق الى امن إسرائيل و هو ما يمثل رسالة بأن تل ابيب مثلما أصبحت وحدها في اليمن ستكون وحدها امام ايران ، و أخيرا تفاجأ ان تل ابيب ليست على جدول زيارات ترامب للمنطقة.
لقد نجح ترامب من خلال هذا القرار في انجاز جملة مكاسب تكتيكية : من جهة كرّس مسار التفاوض مع ايران ، حيث تزامن وقف الضربات في اليمن مع اعلان الجولة الرابعة من المفاوضات في مسقط ، وبطبيعة الحال فان هذا يجعل طهران اكثر حرصا على تجنب التصعيد مع إسرائيل كي لا تفرط بما لديها من فرص واعدة.
و من جهة أخرى يضغط ترامب على إسرائيل التي تحاول تعطيل المفاوضات النووية و ترفض وقف الحرب في غزة . ومن جهة ثالثة يهيئ المناخ لزيارة اكثر إيجابية الى الرياض ، ومن جهة رابعة ينتزع علامة نصر للداخل الأمريكي فهو الرئيس الذي اوجع الحوثيين و اجبرهم على الاستسلام.
والان وبعد فهم السياق السياق الاستراتيجي الذي انضج الاستدارة الترامبية ؛ يمكن لنا طرح الاسئلة المتعلقة بحساباتنا الوطنية : ماهي تداعيات هذا القرار على معادلة الصراع اليمني؟ وما هو هامش المناورة الذي ما زال متاحا للمعسكر المناهض الحوثي؟
يمكن الاجابة على ذلك بمقال اخر!
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news