نشر الصحفي اليمني الكبير الأستاذ عبدالفتاح الحكيمي مقالة على صفحته اتضح لي من سياقها الكلي سعيه إلى استنتاج أن جماعة الإخوان المسلمين خدعت الشيخ السلفي مقبل الوادعي في بداية عودته إلى اليمن، وأنها استغلت المعاهد الدينية لنشر أفكارها الحزبية مما دفع الوادعي حسب الحكيمي إلى الابتعاد عن الإخوان وكشف حقيقتهم لاحقًا. وفي مضمون مقالة الأستاذ عبدالفتاح انحياز واضح لشخصية الوادعي وتصويره كضحية تعرض لـ “خداع” الإخوان في حين لا يتطرق كاتب المقال إلى أي انتقادات قد تكون وجهت للشيخ مقبل أو منهجه، بل يركز فقط على دوره في مواجهة الإخوان، مستخدما لغة عاطفية تتبنى ضمنيا وجهة نظر الشيخ مقبل في رفضه للعمل الحزبي المنظم والجمعيات الخيرية التي يراها مدخلاً للحزبية.
وتعليقا على مقال الكاتب والأستاذ الجليل القريب من أبناء جيلنا على نطاق واسع للطفه وثقافته الغزيرة وسعة اطلاعه وتشعب إبداعه بين الصحافة وتاريخ النقد والأعمال الموسوعية، أعتقد أن من أكبر الأخطاء لدى النخبة اليمنية ولا سيما كل من يؤمن بالعلمانية نهجًا وممارسة، الاكتفاء بالوقوع في فخ المفاضلة بين القوى التقليدية المناهضة لحرية الفكر والإبداع، والمقارنة بينها من باب القبول بمن يبدو لنا أقل عدوانية وشراسة، بينما الفارق الحقيقي بين تلك الجماعات في جذور التفكير والمرجعيات لا ينبئ بقطيعة كبرى كما يظن البعض، لذلك من البراءة التي تصل إلى حد السذاجة القول بفوارق جوهرية بين التيارات التي توظف الخطاب الديني في تحركاتها داخل المجتمعات العربية في الوقت الراهن. فإذا قيل لك إن حاكم سوريا الجديد منع إعادة افتتاح مقرات الإخوان المسلمين في سوريا فذلك لا يعني أنه أفضل حالاً من الإخوان بقدر ما يبرز السباق بين هذه التيارات على احتكار السلطة وتقديم أوراق الاعتماد لمن يضمن لهم الاستمرار.
من هنا لا بد من محاولة فهم ميكانيزمات الخطاب الديني لدى هذه الأطراف وكيف تؤدي بمآلاتها النهائية إلى نتائج متشابهة تعمل على تغييب العقل النقدي وترسخ التبعية الفكرية و”الدروشة المقننة” والتدين المُضر بصحة العقول والأوطان معاً. وكلاهما، الإخوان والسلفيين (الوادعي والزنداني) وهي الثنائية التي اعتمدها مقال العزيز عبدالفتاح الحكيمي، كلاهما وإن اختلفا في الأدوات والواجهات، يمارسان نوعاً من المتاجرة بالدين وتقديم الخطاب الديني كسلعة تهدف إلى الهيمنة على الوعي وتوجيه السلوك على حساب تحفيز التفكير الحر والبحث عن وسائل لإدماج مجتمعاتنا المنكوبة بالفقر والتخلف الحضاري في سلم النهوض والنمو الذي يجعلنا مساهمين بوجود إيجابي في هذا العصر.
وللتذكير فإن ما تسمى بالعلوم لدى السلفيين لا يوجد فيها من العلم النافع لإنسان اليوم ما يستحق الذكر، فماذا يفيدني إذا علمت أن حديث موضوع وذلك حديث صحيح إذا كانت في معظمها أقوال تدعو إلى الزهد وترك الدنيا لأهلها، ونحن من أهل ماذا؟
سترى أن تيار مقبل الوادعي يعتمد على حرفية النصوص وتتبع ما يعتقد أنه فهم السلف الصالح مع إغلاق شبه تام لباب الاجتهاد العقلي الذي يندرج عند هذا الفريق ضمن الهرطقة! وإذا انشغل السلفي المجتهد بشيء فإنما ينشغل بتتبع الأسانيد والاعتماد على تفسيرات قديمة لا تراعي تعقيدات العصر وتحولاته.
وما قد يبدو لنا تمسكاً بالأصول ليس إلا استنبات للقيود في العقل ووضع ألغام الخوف من (البدعة) وتحريم مضمر للتفكير والإبداع وتكفير طرح الأسئلة الكبرى التي تزعزع بعض اليقينيات المدمرة لاستنهاض قدرات الإنسان الحديث، وهكذا يتحول الدين في منظور السلفيين إلى عامل لإفراغ الحياة من قيمتها ومكانتها حتى باعتبارها في الدين دار امتحان، إنهم لا يدعون للمرء ما يختبره في الحياة ويجتهد في التعاطي معه!
أما جماعة الإخوان المسلمين فقد أشبعها الناقدون كتابات على قدر قوة حضورها وتأثيرها وانتشارها، وخصوصا أنها اتخذت مساراً تنظيمياً وسياسياً أضافته إلى بعدها الدعوي المنتشر وهذه حقيقة لا يمكن إنكارها، ولكن على الرغم من الخطاب الذي قد يبدو أكثر انفتاحاً من السلفيين من حيث القبول بالتنظيم والجمعيات والتحزب، تبقى البنية الفكرية الأساسية لدى الكثير من كوادرها وأنصارها غير منفصلة في جوهرها وأدبياتها ونصوصها عن أسس الخطاب التقليدي الذي يميل إلى التلقين والتبعية و (سلفنة) العقل، وتضاف إلى ذلك قيود الولاء التنظيمي الذي يعلو على الولاء للوطن والعقل الحر، بجانب عسكرة المفاهيم الدينية وتحويلها إلى أدوات صراع سياسي واجتماعي، والاعتماد على تبني السعي لإقامة “الدولة الإسلامية” كهدف أسمى للجماعة، لذلك كان لها تأثيرها الطاغي الذي امتد إلى إيران الخميني، وبالضرورة إلى حسين بدر الدين مؤسس جماعة صعدة التي أدخلت اليمن في دوامة طائفية استعلائية تهدد بعودة الإمامة بثياب جمهورية الولي الفقيه في طهران.
الخلاصة أن الإخوان والسلفيين، وفي النسخة اليمنية نرمز لهما بـ(الزنداني والوادعي) يشتركان في القدرة على صناعة “الدرويش” الذي يتخلى عن جزء من قدرته على التفكير النقدي المستقل، ليصبح مجرد تابع، وهذا التابع المطيع يتم تغذية وعيه بخطاب يركز على الرهاب من يوم القيامة والترهيب من الانحراف عن “الصراط المستقيم” وتتحول الحياة الدنيا إلى مجرد ممر نحو الآخرة، مع إهمال بناء هذه الدنيا واختزال الخير في أمور إخلاقية بديهية يمكن أن يقوم بها الإنسان السوي الذي يدرك أن الخير الكبير هو الإسهام في رقي مجتمعه وتطوره في المجالات المختلفة التي تشمل الاقتصاد والصناعة والإبداع والمعرفة والقانون والعمل المؤسسي والإدارة والحوكمة والتعليم المتقدم.
ومن الاحتكاك بأتباع هذه المجموعات الإخوانية والسلفية وما تلتها من معالم حركية شيعية، يلحظ الإنسان المراقب لهذه التيارات من خارجها أن الدين لدى أتباعها يتطلب الانكفاء على الذات والشك في العالم الخارجي والتعالي على ما ينجزه الآخر الخارج عن جماعة المؤمنين، كما يتصورون أنفسهم بالطبع. وفي النهاية يتحول هؤلاء الشباب والأتباع الأوفياء إلى جوقة مدافعين شرسين عن التخلف والفقر المعرفي باسم الدين، فتجدهم يرفضون نقد التنظيم ويعتبرون الشك في الثوابت التي تم تلقينهم إياها درجة من الكفر، وفي المحصلة يقودهم هذا اليقين إلى إدانة كل محاولة لتحرير العقل والاندماج مع المجتمع الواسع، لأن التنظيم يخلق لهم بدائل اجتماعية لا يتمرد عنها إلا القليل من أولئك الذين لا يذهبون بتمردهم بعيدا، ويظهر ذلك من التحاقهم بقطيع ذباب التنظيم في الجدالات على وسائل التواصل الاجتماعي.
كيف ننسى أننا جميعا شهود على جدالات الإسلاميين السطحية طوال أربعة عقود مضت كانت فيها مساخر من الفتاوى المضحكة والخلافات الفقهية التي تجاوزها الزمن، وكان كتاب عذاب القبر الأكثر مبيعا على أرصفة البلدان التي ينتشر فيها الإخوان والسلفيين، فجعلوا الناس في خوف مستمر من عذاب القبر ويوم القيامة بينما نحن نعيش في “قيامات” حقيقية في الحياة الدنيا، بينها قيامة الجهل وقيامة الفقر والاستبداد والانقسامات والغزوات المذهبية والطائفية. فماذا صنعت السلفية والإخوانية غير تعميق هذه الحفر ونفخ المطبات الإيديولوجية الدينية؟
وأختم في معرض التعليق على مقال الأستاذ عبدالفتاح الحكيمي بالقول إن مقاربة تأثيرات التيار السلفي والإخوان المسلمين لا يجب أن تقتصر على تحليل خلافاتهما الظاهرية، لأن نقاط الالتقاء الجوهرية في المنهج ومنبع التفكير واحد لدى الطرفين، ولأن كلاهما يساهم في تكريس الجمود الفكري واستعباد عقل الفرد واستخدام الدين كأداة للسيطرة وإغراق المجتمعات في التهويمات بينما غيرها ينتج ويصدر ويفكر ويبدع ويجعل من دولنا مجرد أسواق استهلاكية لا يمكنها تصدير “المساويك” وإن كانت قد بدأت منذ فترة تصدر التمور وتعيد تغليف منتجات مصانع غيرها.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news