كان أبو الطيب المتنبي جواب منفى، غريب أينما كان، ترحل حتى مات مقتولا وفي قلبه شواغل، وهموم ؛وصراع أمل؛ وألم، وحنين لغابر مجد، وتوق تفرد؛ وحسدحساد .وكان أمرؤ القيس يعيش حياة الفيافي والقفار والغربة الطويلة المصحوبة پالألم والمعاناة والثأر لمقتل أبيه.خاطب الديار والامكنة وتلامس وجدانيا مع الزمن كما عاش الغربة في أرفع مستوياتها. يخاطب قبرا في رحلته التي لايعرف وجهتها فيقول:
(أياجارتاه إنا غريبان هاهنا وكل غريب للغريب نسيب).
يقال أنه مات مسموما في أرض قسطنطية.. تشاغل الفقهاء بموته فقالوا: هو في النار، كان هذا هو مايعنيهم ويهتمون به، حشره في جهنم لنكره جماليات الشعر وتذوقه. ترى لما كان يشكو من الليل وتطاوله وطوله وملاحقته في حله وترحاله .!؟ولما جعله مدار هموم وترحل وثقل حمل .!؟فقال: (تطاول الليل علينا دمون ).. وقال (فيالك من ليل كأن نجومه.. بكل مغار الفتل شدت بيذبل).. وقال: (تطاول ليلك بالأثمد).
وكثير قال عن الليل هذا الشاعر الذي أجاد الغربة وأتقنه الألم. فكان هو أمرؤ القيس الشاعر التعب والملك الباحث عن قلبه ومايعيد له هويته حتى هلك سفرا فجسد الإنسان معاناة..
كلاهما المتنبي وأمرؤ القيس رمزان للذات المغتربة في عالمها بفعل عالمها.ترى مالذي تبقى منهما فينا ؟لما نتداخل معهما في المعنى؟ ويهزان مشاعرنا بفعل تداعيات ذاتيهما. لماذا وجع العربي مزمن يترصده ويلاحقه في حله وترحاله؟ لماذا الاطلال والأثافي وتحمحم الحصان جزء من كيان العربي؟ ماهذه الصحراء التي ظلت هاجسا للنأي واختفاء الطلول وتلفت القلب إليها.؟! الواقع أن ثمة خيط وثيق الصلة بالأنا الجمعية وارتباط وثيق مع الماضي وتذكر الامس بهواجس اليوم. لا يستطيع العربي أن يتفرد حتى في حزنه، تشاغله أحلام وعثرات ومرابض عشيرته بمجموعة قيمها. حين يحاول الهروب، يجفل حصانه وتبرز حالة الغربة عن الذات والواقع، فيعيش العزلة كأنه خلق لها.
فكان هو أمرؤ القيس الشاعر التعب والملك الباحث عن قلبه ومايعيد له هويته حتى هلك سفرا فجسد الإنسان معاناة موسوم على الدوام بالحذر واليقظة. والتوجس من القادم فيرتد الى ذاته، الى أفكار تناوشه كما هو حال المتنبي وامريء القيس. للغربة في الشعر العربي مساحة واسحة لم نطل عليها بعد لنكتشف غربتنا من خلال هذه المعاناة. نحتاج الى أن نرانا في مرآة شعر الغربة لربما استيقظنا من سبات طويل. نحتاج الى مايشبه الدراسات (الانثربولوجية) عن الإنسان العربي منظومة معارف وجماليات وقيم. مازلنا متأخرين في هذا المضمار. لذلك تلازمنا الغربة عن العصر.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news