قراءة في تحويل بوصلة المقاومة من الإطار العربي إلى الحضن الفارسي
كتب/ وليد أبو بكر المعلمي:
تمهيد:
منذ عقود، كانت القضية الفلسطينية هي المحور الجامع للأمة العربية، تمثل الضمير العربي الحي، وتلعب دورًا أساسيًا في صياغة الوعي الجمعي للشعوب من المحيط إلى الخليج. إلا أن هذا الإجماع بدأ يتعرض للتآكل التدريجي مع صعود المشروع الإيراني في المنطقة، والذي عمل بشكل ممنهج على “تفريس” المقاومة ونقلها من إطارها العربي إلى حضن سياسي وأيديولوجي يخدم مصالح طهران أكثر مما يخدم القضية ذاتها.
تفريس المقاومة: من العروبة إلى مشروع الولي الفقيه
عملت إيران، منذ ثورتها عام 1979، على تصدير نموذجها الثوري تحت لافتة “نصرة المستضعفين”، وكانت فلسطين ورقة مركزية في هذا الخطاب. غير أن هذا الشعار سرعان ما أصبح أداة اختراق للعمق العربي، لا لبناء مقاومة فاعلة، بل لخلق أذرع تابعة لطهران تعمل لمصلحة مشروعها الإمبراطوري.
في لبنان، دعمت إيران حزب الله، الذي تحول من مقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي إلى لاعب طائفي في الحرب السورية، يدافع عن نظام الأسد ويقتل السوريين بدلًا من مقاتلة إسرائيل. في العراق، زرعت عشرات الميليشيات تحت شعار “الحشد الشعبي”، لكنها انخرطت في تصفيات طائفية وتمزيق النسيج الاجتماعي، دون أن تُطلق رصاصة واحدة باتجاه فلسطين. وفي اليمن، دعمت الحوثيين الذين يرفعون شعار “الموت لإسرائيل”، بينما يوجهون صواريخهم إلى المدن اليمنية والسعودية.
شعارات بلا طلقات: كيف دفعت إيران بالفلسطينيين نحو المحرقة؟
رغم كل الخطابات المجلجلة من طهران وبيروت وصنعاء وبغداد، لم تُطلق إيران – ولا واحدة من أذرعها العسكرية المنتشرة في الإقليم – رصاصة واحدة في وجه إسرائيل خلال العدوان الأخير على غزة. كل ما حصل هو صخب إعلامي وشعارات فضفاضة، في الوقت الذي كانت فيه طائرات الاحتلال تمطر غزة بالنار والحديد، ومازالت تدك منازل المدنيين فوق رؤوس ساكنيها حتى اليوم.
الواقع أن إيران، بدلًا من أن تكون داعمًا حقيقيًا للمقاومة الفلسطينية، دفعت بها نحو محرقة الموت، مستخدمةً حركات المقاومة الفلسطينية كورقة ضغط في مفاوضاتها مع الغرب أو كأداة لتحسين شروطها في ملفها النووي. لقد تُرك الفلسطينيون وحدهم في الميدان، بينما كانت ميليشيات إيران مشغولة بتعزيز نفوذها الطائفي في العواصم العربية.
الفراغ العربي وتمكين الاحتلال: إسرائيل تستفرد بغزة بلا كلفة
حين نجحت إيران في سحب ورقة المقاومة من حضنها العربي إلى عباءتها الطائفية، خلقت فراغًا استراتيجيًا قاتلًا. فالموقف العربي الذي كان سابقًا موحدًا – سياسيًا وشعبيًا – تجاه فلسطين، أصبح اليوم مرتبكًا وممزقًا بين شعوب تنظر بعين الشك إلى المقاومة بعدما صارت “مدعومة من طهران”، وحكومات ترى في “محور المقاومة” تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي.
استغلت إسرائيل هذا الواقع. فمع غياب الدعم العربي الحقيقي لغزة، وانكشاف زيف الدعم الإيراني، أصبحت تل أبيب قادرة على شنّ أعتى الحملات العسكرية ضد القطاع المحاصر دون أن تواجه جبهة خارجية موحدة، أو ضغطًا فعليًا من حلفاء المقاومة المزعومين.
أما الحوثيون الذين وعدوا بـ”ضرب العمق الصهيوني”، فلم يطلقوا سوى بضع مسيّرات نحو البحر الأحمر، سرعان ما تم تحييدها، دون أن يكون لها أي أثر حقيقي على معادلة الحرب.
الموقف العربي: رؤية بلا أدوات
في الوقت الذي تحوّلت فيه إيران إلى متحدث غير رسمي باسم “المقاومة”، ظلّ الموقف العربي متمسكًا بخيار السلام وحلّ الدولتين كحل عادل وشامل للقضية الفلسطينية. ورغم وجاهة هذا الموقف من الناحية القانونية والدبلوماسية، إلا أنه يفتقر إلى أدوات الفعل والتأثير في موازين القوى، لا سيما في ظل التغيرات الإقليمية والتشتت الدولي الحاد.
لقد أضعفت الاستقطابات الدولية، وحالة الاستقطاب العربي الداخلي، قدرة العالم العربي على ممارسة الضغط الحقيقي. فتحوّلت العواصم العربية، التي كانت يومًا تمثل مراكز الثقل للقضية الفلسطينية، إلى مواقع لإصدار بيانات الشجب والتنديد والاستنكار، دون أن يصاحبها أي فعل سياسي أو دبلوماسي نوعي.
وهكذا، وبدل أن تتوحد الرؤية العربية حول دعم الفلسطينيين ميدانيًا وسياسيًا، تُركت غزة تواجه مصيرها وحدها: بين آلة حرب إسرائيلية لا ترحم، وخطاب مقاوم فارغ تُطلقه طهران وأذرعها دون طلقة، وبين موقف عربي محق في طروحاته، لكنه أعزل تمامًا في وسائله.
خاتمة:
حين تتحول فلسطين إلى ورقة في صراع الآخرين
في ظل هذا المشهد المأزوم، تبدو القضية الفلسطينية وكأنها فقدت بوصلتها بين محورين: محورٍ عربي يمتلك الرؤية ولا يمتلك الأدوات، ومحورٍ إيراني يمتلك الشعارات ولا يُريد الفعل، بينما إسرائيل تمضي في تنفيذ مشروعها الاستعماري بغطاء من الصمت الدولي والتشرذم الإقليمي.
لقد ساهمت إيران – بشكل مباشر أو غير مباشر – في تفريغ القضية من محتواها العربي، ودفع فصائل فلسطينية إلى الحضن الإيراني، وهو ما سهّل على إسرائيل شيطنة المقاومة، واستغلال انقسام المواقف الإقليمية، وتقديم نفسها كطرف “معتدى عليه” في مواجهة “محور إرهاب”، كما تصفه.
أما الشعوب العربية، التي كانت يومًا تهتف لفلسطين في كل شارع، فقد وجدت نفسها أمام معادلة محبطة: مقاومة مدعومة من نظام قتل أبناءهم في سوريا والعراق واليمن، وموقف عربي خجول، لا يمتلك إلا بيانات الشجب.
هكذا تُركت غزة وحدها، تُدافع عن شرف الأمة، بلا سند حقيقي، لا من حلفاء المقاومة المزعومين، ولا من أصحاب المبادرات السلمية، لتصبح فلسطين – مرة أخرى – الضحية الأولى لصراعات الآخرين.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news